الثلاثاء، مايو 09، 2006

لقد عادت

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"


دخل بيته و توجه لغرفته, فتح بابها
ألقى بنفسه على فراشه كمن ينوء بحمله
و يسقط كصخرة تنحدر من فوق جبل مرتفع لتغوص فى أعماق البحر
يهدأ قليلا حتى تهدأ حدة أرتطامه بسطح المياه الباردة
ثم يبدء رحلة الغوص لأعماق المجهول المليء بالحيرة و الغموض

أخذ يحملق فى سقف غرفته...و يشعر بهدوء عجيب...ذلك الهدوء الذى يسبق العاصفة

كانت المفاجأة كبيرة...أكبر من أن يستوعبها عقله..نعم لقد عادت...و أتصلت به
لم تقل الكثير...و لكنها عادت
شعر بأفكاره تتبارز فى تناحر شديد و تراقصت مشاعره على قعقعة السيوف

تذكر لحظة أن لمس يديها
لمسة حركت كل مشاعره كأمواج مرت عبر جسده..فتُحرك كل ساكن بداخله
فتحتضنها الرمال الملتهبة برفق...فيتصاعد رذاذ التقائهما محملا بحرارة الشوق

فأراح رأسه إلى الوسادة...و أغمض عيناه..عله يهرب من لهيب هذا الشوق

فرأى طفل يلعب...و يهلل بسعادة:
- لقد عادت
- نعم..بعد كل هذه السنوات...قد عادت

كان الطفل فرحا كمن عادت أمه إلى البيت بعد غياب طويل و قبلته بحنان و هو يلعب
لا يهم إن كانت متعبه من طول رحلتها الشاقة...لكنها موجودة و قد عادت

أخذ يتأمل هذا الطفل كثيرا و يتعجب
أنه الطفل الذى يعيش بكيانه...هذه البراءة التى يحفظها كل منا منذ أيام طفولته
ظن أنه فقده...فكم كان قاسيا معه عندما بكى لفراقها
أخذ الطفل يصرخ و يبكى:
- إنى أريدها
فيجيبه:
- لقد رحلت
فيصرخ الطفل و يقول:
- إنى إريدها...فأنا أحبها و أعلم أنها تحبنى
فقال له:
- من ترحل و تهجر؟ لا تعرف الحب
فيبكي و يقول له:
- لا...أنت من تركها ترحل و لم تحارب من أجلها...أنت من تركها ترحل
فصرخ به:
- ما كان بيدى حيلة؟ فأنا حتى لا أعلم لم رحلت و تركتنا, كنت كمن يعاقب على ذنب لا يعرفه؟

و لم يهدأ الطفل و ظل يبكى...فقسى عليه
جره من يده...و ألقى به فى ذلك المكان المظلم فى غياهب نسيان روحه
لم يكرهه لحظه..و لكنه خاف عليه
سجنه بعيدا..كى لا يتركه يؤذى نفسه..و لا يسمع صراخه

و عاش أيامه...حاول أن ينساها...ذهب لكل مكان...جاب البلاد
شارك فى معارك لا ناقة له فيها و لا جمل
خاض الأهوال...الناس تساقطت من حوله
ربح و خسر...أنتصر و أنهزم...و لكنه يوما لم ينساها
و ظل السؤال يجوب معه البلاد...و يسأله بإلحاح:
- لماذا لم تنساها؟؟؟

تمنى لو كان قلبه قاسيا مثل رفاقه...فهم يبدلوا النساء كما تبدل الملابس
و الكل سخر منه و من أحلامه...عاش كقيس مجنون ليلى
و لكن هل هو ساذج لكونه برئ؟؟ أم هو مخطئ لأنه أحب؟؟؟

فسمع صوت ضميره يوقظه قائلا:
- لكن هذا حب قصص و أساطير...لم يبنى على حق
- فالحب لا يأتى إلا بالعشرة الطيبة و الخلق و المعاملة الحسنه
- الحب يأتى بالمشاركة فى ما هو حلو و مر
- الحب يأتى عندما يبنى على تقوى الله

و هنا جاءه الطفل بوجهه البرئ مبتسما و قال:
- و لكنك لم تبغى يوما غير تقوى الله...فكنت دائما تريدها زوجة

فصرخ فيه الضمير:
- يا بن أدم..أنت تعيش أيام معدودة فى هذه الدنيا و ستفارق و ستسأل
- ستسأل لا محاله...فبماذا ستجيب؟؟؟ كنا نلهو و نلعب ثم سنتزوج؟؟؟
- فأين العقل؟؟؟ أين؟؟؟

فأجاب هو:
- و لكن الحب ليس حرام؟

فأجاب الضمير:
- نعم...الحب ليس حرام...إن كان فى أطار ما شرع الله
- يا بن أدم...الطريق شرعه الله و أوضحه...فمن يحيد عنه...هو الخاسر
- يا بن أدم...قد هداك الله و رحمك من معصية كنت مصرا عليها...فلما تعود لذنبك؟
- يا بن أدم...أنت تريد من تصون بيتك و عرضك و تربى أبنائك على تقوى الله
- يا بن أدم...من تخون مره تخون مرات...التسامح جميل و لكن التناسى خطيئة

فبينما يفكر فيما يقوله ضميره...أمسك الطفل بيده و أبتعد به قليلا و همس له:
- نحن نحبها و ها قد عادت...فماذا أنت فاعل؟

فوجه سؤاله للطفل و عيناه مليئه بالحيرة:
- و ما أدراك أنها قد عادت؟ ربما كانت مجروحه و تحاول أن تستعيد ذكرى قد مضت
فأجابه الطفل:
- لا...أنا أشعر بأنها قد عادت...و أراها خلف كلماتها القليله...تنتظر

فوضع يده على رأسه كمن يحاول أن يقضى على هذا الصراع الدائر بداخله
ثم نظر للطفل و قال:
- و لكنها هجرت من قبل و رحلت...و أنا نسيتها

فأجابه الطفل:
- لا تكذب, فأنت لم تنساها...كنت أسمع قطرات الحزن تتساقط بداخلك لترتطم بجدار قلبك الخاوى بعد رحيلها...فتزيد آلامه
- لا, لم تنساها...مازلت أذكر أحلامك التى كانت تداعبك...كلما نزلت هى ببلد أنت هارب فيها
- لا, لم تنساها يوما...و مازلت تنطق أسمها كترياق يشفى جراحك

فصرخ فيه و قال:
- لقد جرحتنى...و أنت طيله حياتك طفل ساذج, كفيف, لا ترى
فأجابه الطفل:
- أنت من أفقدتنى بصرى بخوفك الزائد على و حبسك لى بين أضلاعك..دعنى أخرج و أخطئ و أتعلم

فقال له:
- أخذت فرصتك من قبل و كنت ما تزال ضعيفا
- خرجت تلعب و تلهو معها فى حدائق غناء
- و لم ائتمن قبلها أحد عليك...غير أمى
- فجرحتك و هجرتك...و أمك و قد ماتت و تركتك
- و أصبحت وحيدا و ليس لك غيرى الأن

فقال له الطفل:
- لا تخف, أنا الأن تعلمت و هى عادت لنا
- و أنت تعلمت الحياة و تغيرت كثيرا و أصبحت تقف على أرض أكثر صلابه
- و هى لن تؤذينى أنا أعرفها جيدا
- فطالما رأيتها ذلك القمر الذى كان ينير لنا ليالينا...فى ليلة كنت أرجو أن لا تنتهى
- و ما زلت أراها تلك الوردة الجميلة و لكنها فقط سقطت فى أرض قاحلة
- دعنى أرعاها و أحنو عليها و أسقها من ينابيع حبى...و ستعود و تزهر و تتفتح
- أرجوك أعطينى هذه الفرصة...ماذا سنخسر أكثر مما خسرنا؟
- كفاك عناد...ماذا سنخسر؟

فناده الضمير:
- أفق من أوهامك...فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين
- يا بن أدم...الحب أمتلك قلبك لكونه خاوى من حب الله
- يا بن أدم...من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه
- يا بن أدم...هذا ليس دورك فى دار الأختبار
- خدعك الشيطان مرة...فلم تعود؟؟؟!!!

فظل حائرا و الاثنان يحاصرانه و يتردد صدى أسئلتهم فى جنبات نفسه مرات و مرات
الطفل يصرخ:
- ماذا سنخسر...هى و قد عادت..ماذا ستفعل؟؟؟
و ضميره يتسائل:
- خدعك الشيطان مرة...فلم تعود ؟؟؟!!!

قلبه مازال يتلاعب به....و ضميره يدعوه للخير...فبدء عقله يسبح فى بحور الحيرة

حتى تردد بداخله قول الله تعالى من سورة الجاثية:
"أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ
أَفَلَا تَذَكَّرُونَِ"

فعم الصمت المكان و هدء كل شئ و استكان

هو...فأكرمه ربه بجعله ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه
و الطفل صمت أيضا و وقف متحيرا بعد أن ترددت أصداء هذه الآية

فأقترب من الطفل و ربت على كتفه و قال له:
- الشيطان خدعنا...و نفسنا أمرتنا بالسوء
- و أنت تعلم إنى أحبك و أخاف عليك...فلا تخف..ستخرج للدنيا...ستُحِب و تُحَب
- و لكن أولاً يجب أن تصبح رجلا

- فماذا تختار؟؟؟
- حب لا معنى له, مبنى على أرض لا وجود لها؟؟
- أم حب لخالقك و جنة عرضها السموات و الأرض؟؟؟

فنظر له الطفل نظرة الواثق فى من يحدثه و ترقرقت عيناه بالدموع
و ألقى بنفسه فى حضن صاحبه و بكى, ثم قال:
- و لكن الألم شديد
فقال له صاحبه:
- نعم..أعلم..و لكن النار وحدها هى التى تصقل المعدن النفيس
ثم مسح على شعر هذا الطفل البرئ و قال له:
- إبكى...فإن البكاء يطهر النفس و يزيل الألم...إبكى بكاء الرجال

ثم فتح عينيه و أعتدل ببطأ على طرف فراشه و أخذ ينظر لباب الغرفة المفتوح
ثم قام من مقامه و على وجهه ابتسامة رضى
و بهدوء توجه إلى الباب الذى كان قد نساه مفتوحا
فأغلقه

فلم كانت هذه الابتسامة؟؟؟
هل هى ابتسامة تصالحه مع نفسه فعلا؟؟؟ و هل وجد السلام بداخله؟؟؟

و أنت
إذا طويت هذه الصفحة, فوجدت الصفحة التاليه بيضاء
فماذا ستكتب عليها؟؟؟
أتعيد كتابة نفس هذه القصة؟؟؟
أم ستسطر قصة حقيقية تقربك إلى الله؟؟؟