الاثنين، نوفمبر 30، 2009

لست وحيدا

كل هذه الأيدي الممدودة في توسل، تلوح من أجل أن تنال منك ولو ابتسامة.
يحبونك، بل هم مهووسون بك.
تصرخ، تصرخ بقوة. تجعلهم يفقدون وعيهم، تطلق العدوى بين الجموع.
لا تكترث عندما تراهم يتساقطون.. لا ترأف بحالهم، فأنت أعلم بما يريدون.
ولا تنسى أبدا عندما تنهي رقصتك - فوق هذا العالم - الوقوف على أطراف أصابعك.


ها قد حانت فترة الاستراحة.. تسترخي، تلتقط أنفاسك، ترفع شعرك الطويل المنسدل على عينيك، قبل أن تمسح جبينك الذي يتصبب عرقا.
ترتشف قليلا من الماء المثلج. تقع عيناك على ذلك الشاب الواقف هناك. يكرر كل حركاتك، إنه نسخة كربونية منك. لا تعلم لماذا تكره النظر إليه.
تطرق برأسك، تنظر صامتا بين نعليك، فتعود تلك الدمعة لتتراقص في عينيك.
كم كان المشهد قاسيا. في الظلام، يسحبون منك ذلك الطفل البريء. يلقون به لتلك الصواعق المجلجلة بضوئها الأخاذ، تنقض عليه، تخطفه بقسوة.
مازال نحيب صراخه يدوي في أذنيك، يضج مضجعك.
لا يهم هذا الآن، الوقت يداهمك، يجب أن تركز. ينتظرونك لتعود إليهم، لتفعل ما لم يفعله غيرك. سيجن جنونهم عندما يرونك سائرا فوق القمر. بالطبع لم يكن هذا ليكفيك، لذلك ستكون مشيتك إلى الوراء.
تظهر عليك علامات التوتر، لكن تكسوك لمحة من الثقة، فقد تدربت كثيرا. تقف، تنزع عن وجهك تلك النظرة البائسة. تكثر من وضع المساحيق لتطمر بؤسك وما أصاب ابتسامتك.
تعلم أنه لا مجال للفشل، الحاقدون ينتظرون فرصة لاصطيادك. سيصمونك بكل نقيصة، سيطاردونك بالإشاعات.


ها قد حانت اللحظة. تبذل مجهودا عظيما جعلهم مبهوتين. تسعى لجعل الجموع يعبدونك. لا يفيقون إلا بعد أن التهم الألم أيديهم من شدة التصفيق، وتشققت حناجرهم من الصراخ.


تبدو مرهقا، تلتقط أنفاسك بصعوبة، يتصبب العرق من كل جسدك. لكن أنصت، ها هم يهتفون باسمك. أطلقوا أجنحة شهرتك إلي الأفق البعيد، أصبحت ملء السمع والبصر.
يركضون وراءك في كل مكان. تقف لتوزع ابتساماتك التي أراها لأول مرة.
لم يكتفوا، صنعوا لك تمثالا ضخما. تذهب لتنزع عنه الستار، يتدافعون حولك.
أرى أنفاسك قد اختنقت من الزحام المحيط بك. ازداد الأمر عن حده، بدأ يفقد لذته، أصبح لا يطاق، بل صار بشعا.


أصبحوا لا يتورعون عن انتهاك خصوصيتك. ضاق صدرك، تصرخ فيهم "توقفوا". تصرخ طلبا للسلام، راجيا أن يتركوك ترتشف قطرات من الهدوء.
لكنهم لم يحترموا صرخاتك، كم هم سريعو النسيان.
تصرخ فيهم، أنك شرير. تتركهم يفعلون ما يحلو لهم. تعود لمأواك مغاضبا، تصدر أوامرك برفع الأسوار، لقد قررت أن تضرب على نفسك حصارا.


ها هي دائرة الضوء تنحسر، تنزوي بعيدا في أحد الأركان.
تلقي بنفسك فوق أريكتك، تغمض عينيك، تهدأ قليلا. تبحث حولك، لا تجد تلك الشجرة التي اعتدت الراحة في حضن غصونها الظليلة. تداعب أوراقها وجهك، تضحك، فينساب صدى ضحكاتك على جنبات المكان. فقدتها إلى الأبد، لقد ماتت على حواف صرخاتك.


تفتح عينيك لترى الظلام قد عاد ليسيطر على عالمك من جديد. صرع دائرة الضوء المرتجفة، ثم راح يلتهمها بنهم.
تشعر بضيق في صدرك، كأن روحك تصعد إلى السماء. تظل راقدا تتأمل أضواء الشموع التي تتراقص أمامك. لا تحرك شيئا بداخلك، ولا تُشعرك بدفئها.
وأَنَّى لها هذا مع برد قارس لعين، يزحف على جدران قصرك المهيب. لا يرحم ضحيته، سوداء كانت أم بيضاء. زج بك إلى سجن نفسك، فصرت حبيسا، تشعر بالتيه والغربة. يجمد أناملك، وينحت الجمود على ملامح وجهك. تبكي من شدة الألم، لا أحد يسمعك، إنهم حقا لا يهتمون.


ها هو يوم آخر يجمع عقاقيره وأدواته، يرحل ومازلت وحيدا.
فقدت بريق الحياة، صرت هزيلا. تتململ في مكانك، تحاول الخروج من حالتك المزرية. لا تكترث لهذه الدماء التي تكسو الأرض، تستند إلى حطام نفسك، ترزح في أصفادك.
تزحف نحو ذلك الرجل في المرآة. بلغت موطئ قدميه. فزعت، كأنما رأيت مسخا. تجمدت في وقفتك، لماذا لا تتقدم؟. استرضه قدر استطاعتك. تلون ، ارقص، اضحك، ابك، لعله يسمح لك أن تكون هو.


فقدت جل طاقتك، شحب وجهك وذبلت عيناك. يئست وبكت الوحدة بداخلك، صرت منكسرا. تحاول جر نفسك من هذه الحالة البائسة. تنهض مرة أخرى لتؤدي هذه الرقصة. هذه المرة تفعلها لنفسك فقط.
تقفز، تدور على عقبيك. تضحك، تضحك، لا تتوقف عن الضحك. لكن تعود لتسقط، تجثو على ركبتيك وتبكي. تحاول أن تصرخ لعل هذا يشعرك بالراحة. لا فائدة، تشعر أن الأمر عديم الجدوى، بعد أن أصاب الخرس دموعك.


لكن انتظر، ما هذا الضوء الذي يسطع هناك؟.
ارفع رأسك. اقترب، تقدم أكثر. ما هذه النظرة اليائسة؟، يمكنك تحطيم كل هذه القيود، يمكنك الهرب.
أسرع، تحرك. اترك هذا الظلام، اصهر هذا الجليد الذي تكثف على ملامحك.
مالي أراك فاتر الهمة؟. إلى أين تركض؟ ليس في هذا الاتجاه، انتظر.


ما الذي جاء بك هنا؟ لماذا تضع رأسك على الأرض هكذا؟
أراك تصغي السمع لنبض الأرض. تنبش سطحها، تحفر، تحفر أسرع، يتملكك الجنون.
تزداد الحفرة عمقا، يتحول همس نبضها إلى صراخ. تصرخ أنت، وتصرخ هي واضعة حملها.
تفزع لرؤية هذا المولود، قبل أن يرتد إليك طرفك، تجده قد برق أمامك.
تتسابق نبضات قلبك محاولة الهرب. ملامحك المتجمدة تسأل عن أشعة الشمس التي تحمل على أجنحتها قطرات الندى.
تزحف رائحته بهدوء بين ثقوب أنفك التي بدأت تضيق كأنها سم الخياط.
يكف جسدك عن الانتفاض، بدأت تسكن. تغمض عينيك في استسلام، بعد أن أيقنت.. أنك لست وحيدا.


بقلم: عدنان القماش.
14 يوليو 2009.


من مجموعة: فأر في المصيدة.

توزيع: أخبار اليوم.

الاثنين، يناير 26، 2009

تحت الحصار


يدربهما أبوهما على المبارزة، تبدو على الصغيرين علامات الإرهاق والتعب. يتصنع القسوة قائلا:
- لا يبارز بالسيف إلا الرجال. ألا تريدان أن تصبحا رجلين؟.
******

طريق غير ممهد، لا نهاية له. أرض واسعة مهدمة بيوتها، وجدار يبعد عشرين متراً، تبدو المسافة دهراً. يركض بكل ما أوتي من قوة، تلتهم قدماه الطريق، لا يخطط عقله لموضع الخطوة التالية. يلهث، يتصبب العرق من جميع أنحاء جسده. يحمل كيسا صغيرا، يشعر كأنه جبل مقيد إليه بالسلاسل.

تخيل أحد القناصة مصوبا بندقيته نحوه. ارتسم في مخيلته وحش ذو أنياب طويلة وعينين حمراوين، ينهب الطريق نهبا لينقض عليه، يكاد يدركه.
انشقت الأرض عن الجدار الذي ظن أنه ليس ببالغه، وثب بكل قوته ليختبئ وراءه. بدا كطفل يلوذ بدثاره في ليل شديد البرودة. حاول جمع شتات جسده، التقط أنفاسه بصعوبة، التصق بالجدار. تلفت حوله، ظلام دامس. لعن التقنيات المتقدمة التي جعلت عدوه يتابع كل تحركاته، ولا يرى هو شيئا.

تذكر أسرته الجائعة، شعر برقة تملأ قلبه. تحسس الكيس القابع بين يديه كأنه كنز ثمين.
******

كان الأب ينظر حوله من فوق الشجرة التي اعتلاها، ليرى كم تبقى من العمل. تنظر إليه زوجته بوجه مشرق، تمسح حبات العرق المتلألئة على جبينها. ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، عاد لإسقاط الثمار إلى الأرض المبتلة.

لم يكف الصغير عن النظر إلى أمه، بينما يجمع حبات الزيتون بفرحة طفولية. يركض نحوها متسابقا مع أخيه ليريها ما جمعه. تبدي انبهارا مصطنعا، تقبله وتشجعه على الاستمرار في العمل باجتهاد.
يشعر أخوه بالغيرة، يدفعه، يسقطه أرضا. يتشاجران، ينفرط ما جمعاه من حبات الزيتون، ويتلطخان سويا بالطين. تفصل بينهما، تعنفهما، تطالبهما بتبادل الحب ونبذ الشجار.

رغم التظاهر بالصلح، ظلا متشاكسين في طريق العودة إلى المنزل الذي ملأت رائحة الطهي الزكية جنباته. تجلسهما إلى مائدة الطعام، لا ينتظران حتى تلامس الأطباق سطح المائدة. يتخاطفان الطعام، وهما يضحكان. أبدت الأم غضبها. لكن الأب لم يتمكن من مسايرتها في التظاهر بالغضب، أطلق ضحكات حملت إرهاق يوم شاق من العمل.

يركضان إلى حديقة المنزل، يعودان للعب والضحك من جديد، حول شجرة الزيتون الضاربة بجذورها في الأرض منذ قرون.
******

مرت سنوات طوال منذ أن اعتقلوا أباه وأخاه خلال إحدى مظاهرات الانتفاضة. غابا في ظلمات السجون. مات الأب، وترك الابن وحده أسيرا. ذبلت الأم، ومرض قلبها الكسير.

جالسا القرفصاء، مستندا بظهره إلى جدار تلك الغرفة الصغيرة، التي تؤويه هو ومن تبقى من أسرته. عيناه متشبثتان بأمه التي أصابها الهزال واشتد مرضها، نتيجة لقلة الطعام وندرة الدواء في ظل الحصار المفروض على القطاع.
حسم أمره على الخروج مهما كلفه الأمر، قَبَّل يدها، همس في أذنها:
- لن أتركك ترحلين هكذا.

جذبته ابنته من سرواله بيديها الصغيرتين. استحلفته بالله – إن كان يحبها، أن يحضر لها قطعة من الحلوى. جثا على ركبتيه، ارتسمت على وجهه ابتسامة شاحبة، احتضنها وقَبَّل‏ رأسها.
تفادى نظرات القلق التي ملأت عيني زوجته أثناء توديعه لدى الباب:
- لماذا لا تنتظر؟ لقد أعلن العدو وقف إطلاق النار، وسيبدأ عملية الإنسحاب غدا.
- قدر الله وما شاء فعل.

آثار الدمار في كل مكان، بيوت مهدمة، أشلاء وجثث ملقاة على قارعة الطريق، ودماء تجلطت فأصبحت كبقع سوداء لزجة على جنباته.

وقعت عيناه على الجارة العجوز، تجمع كومة من أشلاء جيرانها (1). تتمتم بهمهات غاضبة غير مفهومة عن المقاومة والحروب. ترفع أكف الضراعة إلى السماء داعية أن يتحقق السلام. جلست أمام كومة الأشلاء، تنسج غزلها في انتظار سيارات الإسعاف.

من تحت قدميه، ارتفع صوت عظام تتهشم. شعر بغصة في حلقه، وهو يهرب من مطاردة السؤال، "لمن ممن عرفنا كانت هذه؟"

غطى وجهه بوشاحه الفلسطيني ذي اللونين الأبيض والأسود، في محاولة عابثة لحمايته من قسوة البرد القارس المستمر منذ ليال طوال. أثقلت الريح قلبه بذكرى ابنه.
******

علمه القرآن منذ نعومة أظافره، نبغ الصغير في ذلك، أتم حفظه في السابعة من عمره.
يقضيان الليالي في التلاوة والترتيل:
- ما أعذب تلاوتك يا عبد الله.
يرتسم الخجل على وجه الفتى، حنى رأسه في تواضع.

- هل قررت في أية كلية ستدرس؟
- كلية الطب إن شاء الله.
يصمت متأملا ملامح ابنه ووسامته البادية، يتخيله ربا لأسره، يبتسم:
- هل ستسمى أحد أبنائك محمدا؟
- كم ستدفع؟
يضحكان كثيرا، وتظل الضحكات يتردد صداها.
******

ذات ليلة، تهاوت الأحلام، كنجوم تتساقط من سماء سيطر عليها الليل، ومد أشرعته حالكة السواد.
هجم العدو هجمة غادرة على القطاع. قذائف ونيران تنهال من كل جانب حاصدة البيوت والأرواح، تمهيدا للحظة الحسم.
هجوم بري مدعوم بالمدرعات. قوات كالسيل تأتي على الأخضر واليابس.

همس في أذن صغيره:
- الآن يا عبد الله سنعلم كيف يحيون!
حملا السلاح، استبسلوا مع الجميع. من تنفد ذخيرته، يشتبك بالسلاح الأبيض أو ما تصل إليه يداه من حطام المنازل المهدمة. كثيرون سقطوا، لكن دائما كان يتبعهم آخرون. لم يملك العدو أمام شجاعتهم واستبسالهم غير الانسحاب جارا أذيال الهزيمة، تلاحقه صيحات النصر والتهليل.

علا الأزيز حتى ملأ المكان. كأنما فتحت أبواب الجحيم، وبدأ المعذبون يطلقون صرخاتهم. عادت الطائرات لتهاجم بضراوة، صَاحَبَ هديرها قذف وحشي من مدفعية ثقيلة صمت الآذان.
أنيرت السماء بسحب بيضاء لها أشكال قناديل بحر عملاقة، ارتمت بقسوة على الأرض لتشعلها بمن عليها. عادت السماء لظلمتها، حل صمت مطبق، لم يكسره غير أنين المصابين، وأصوات أجساد تُشوَى.

إصابته كانت خطيرة، لكن صغيره كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. رغم آلامه الشديدة، سحب صغيره بعيدا قدر المستطاع. نادى المسعفين، لكن الروح صعدت إلى بارئها.

سكن كل شيء، صمتت الدنيا مشاركة إياه حزنه المتفجر. أنطفأ المشهد أمامه عمن بقى من المقاومين حاملا سلاحه. لم يعد يسمع أصوات القذائف، وأنات المصابين، أو أي من نداءات المسعفين.

سار طويلا حاملا حلمه المحتضر بين أحضانه. وهنت ساقاه، سقط به أرضا. ضم جثمانه إلى صدره، أخذ يتحسس وجهه وشعره، ويشْتَمَّ رائحته الزكية. أراد أن يصرخ، خانه صوته، تساقطت دموعه شاكية إلى الأرض الصامتة التي ألهبتها النيران.
******

- اقرأ يا عبد الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
"وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ"(2).
صمت الغلام قليلا:
- كيف يحيون يا أبتاه؟
- أنهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة تحت عرش الرحمن، تجوب بهم أرجاء الجنة (3).
- وهل أهلنا‏ يحيون هكذا؟
- ندعو الله أن يرزقهم جميعا هذه المنزلة.
******

نفخ في يديه المتجمدتين ليدفئهما، همس في حزن: "كم اشتقت إليك يا عبد الله".
كان محل البقالة مغلقا، ذهب إلى بيت صاحب المحل.
- بني، كان هناك القليل ونفد.
- أرجوك، الحال لا يحتمل.
ارتسمت على وجهه علامات الحسرة، مما حرك الكثير من الرحمة والعطف في قلب البائع. اقتسم معه الزاد القليل الموجود في منزله، دفعه إليه في كيس صغير.
كان قد فقد وظيفته منذ شهور، خلع ساعة يده، دفعها إلى البائع مطرقا الرأس. شعر البائع بمدى اعتزازه بها:
- لا حاجة للنقود.
- لا يمكن قبولها دون مقابل.
- حسنا، سأحتفظ لك بها حتى يتيسر الحال. لكن لابد من قضاء ليلتك عندنا، القناصة يتربصون بأي شيء يتحرك. (مبتسما) فقد أثخنت المقاومة قواتهم المذعورة بعمليات شجاعة وجريئة.
- لا استطيع، لابد من العودة.
******

صوت خطوات ثقيلة تقترب، حبس أنفاسه، ما زال الظلام الحالك يحاصره. نظر من خلال فجوات الجدار المتهدم. دائرة الضوء الصادرة عن كشاف المراقبة تبتعد. أحكم قبضته على الكيس الصغير، اندفع بكل قوته، أخذ يركض مسابقا دقات قلبه.

انطلق صوت صفارة إنذار، استيقظت الأرض الميتة، أصبحت كصحراء يملؤها الشياطين صخبا. رأى دائرة الضوء تنقض عليه كفريسة لذئب مفترس.
رفع يده الممسكة بالكيس، صرخ أنه يحوي القليل من الطعام. علت الأصوات من كل صوب، تداخلت، توترت الأجواء. ابتلعته اللحظة التي يواجه الإنسان فيها المجهول.

انهالت الطلقات النارية تشق ظلام الليل. ألقت بجسده بعيدا، ينتفض وينزف بغزارة.
وقعت عيناه على محتويات الكيس المبعثرة، أخذت الأصوات تخفت حتى حل الصمت.
******

ذهبت الأسرة لأداء صلاة عيد الأضحى. نسائم الفجر العليل داعبت وجهه الصغير. أرسلت الشمس أشعتها، فاستيقظت السحب في كسل، ثم انقشعت في هدوء. انفرج المشهد عن المسجد الأقصى متلألئا في أول لقاء بينهما.

ارتسمت على وجه الأب علامات الحزن والغضب. وهم يمرون بمجموعات من جنود الاحتلال الصهيوني.

اختتموا الصلاة. اجتمعوا بالأم. احتضن الأب صغيريه، هنأهما بقدوم العيد. قَبَّل‏ الأكبر وأعطاه قلما. داعب شعر الصغير، قبل أن يخلع ساعته مبتسما:
- اليوم أصبحت رجلا، يجب أن تمتلك ساعة كالتي يملكها أخوك.
******

نقل الأثير عبر أجهزة اللاسلكي، نبأ هجوم أحد الإرهابيين، كان يهدف إلى تفجير نفسه في القوة الخاصة المسيطرة على إحدى بنايات القطاع. وقد تم التعامل مع الهدف بنجاح.

لم يبق لابنته الصغيرة غير البكاء وفراش صغير بارد يحمل رائحة جدتها التي احتضنها الثرى بحنان. وأمها التي وقفت على قارعة الطريق، تخلط الدموع بالزغاريد.

تمت بحمد الله،،،

بقلم: عدنان القماش – مصر.
26 يناير 2009.


إهداء إلى أخي في الله الشاعر والأديب عدنان أحمد البحيصي - الشهير بعدنان الإسلام، والذي رحل مع من رحلوا من أبطال غزة، ونحتسبهم عند الله من الشهداء.
وكذلك إلى كل أهل غزة الأبطال، الذين رزقهم الله النصر والعزة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.


اعتراف واجب:
تأثرت كثيرا في مشهد جمع حبات الزيتون بقصة "قبضة من حبات الزيتون" لأستاذتنا الكريمة "وفاء شوكت خضر". أرجو المعذرة أستاذتنا الكريمة، لكن قصتك نقلت إلى صورة نابضة من أرض الرباط فلسطين.

(1) هذا المشهد بشهادة أحد رجال الإسعاف على قناة الجزيرة.
(2) الآيات من 169 إلى 171 من سورة آل عمران.
(3) مصداقا للحديث الصحيح:
"إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة تحت العرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ فيفعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيلك مرة أخرى ! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا "
الراوي: كعب بن مالك المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 1558
خلاصة الدرجة: صحيح.

السبت، مايو 24، 2008

المواطن المستقيل




استيقظ في الصباح الباكر، أشق طريقي في الحارة المتعرجة، بيوت متهالكة، نوافذ مغلقة تعلوها الأتربة، تبدو كعيون ناعسة لوجه كسول.
أصل إلى‏ عم علوان وعربته التي يبيع عليها الفول المدمس والفلافل الساخنة. يعطيني طبق الفول الساخن بالزيت الحار ورغيف خبز. ابدأ في تناول إفطاري بشكل آلي. تجوب عيناي أرجاء عربته القديمة، تعلوها الأوساخ رغم آثار محاولات التنظيف الواضحة، الذباب يحيط بالمكان، مشهد معتاد لا يجعلني أظهر أيا من علامات الاستياء.
أنهي إفطاري، اتجه إلى‏ الشارع الرئيسي، تبدأ المعاناة اليومية لكي أصل إلى‏ محل العمل. أنتظر في محطة الأتوبيس المزدحمة، يصل الأتوبيس، يتكالب عليه الناس. خرجت بنصيبي من المعركة متشبثا بالإطار الخارجي للباب، إحدى قدماي على درجة من السلم، الأخرى أضعها على الرفرف الخارجي لإحدى العجلات. أحاول كثيرا الحصول على مكان أحد النازلين، أفشل نتيجة التدافع الشديد.

أصل إلى المبني المتهالك الذي يمثل محل العمل، ارتقي درجات السلم الرخامية المتآكلة، تقودني إلى‏ مكتبي العتيق الذي يجثو في مكانه منذ ستة وخمسين عاما. وكما يحلو دائما لعم صابر أن يخبرني، أن هذا المكتب كان آخر شيء من رائحة مصر الملكية.
عم صابر رجل عجوز في نهاية العقد السابع من عمره، كان كل دوره في الحياة، أنه كان الموظف الذي سبقني في استخدام هذا المكتب لأكثر من أربعين عاما.
يزورنا من وقت لآخر، يمر بغرفتنا ليلقي التحية على الزملاء. كان يحلو له الجلوس إلى‏ جواري، ربما بسبب اشتياقه إلى‏ مكتبه الحبيب الذي أقبع خلفه منذ سبعة أعوام، منذ تخرجي من كلية الزراعة.
لم أعرفكم بنفسي، أنا شاب في الثامنة والعشرين من عمري، قوي البنية، أحمل ملامح ريفية مميزة، كثيرا ما يسألني الناس عن سر لمحة الحزن التي تكسو ملامحي، خصوصا عم صابر. يخرجني من تركيزي في العمل بالنقر على سطح المكتب - يبتسم متفاخرا بالخامات المصنوع منها -، يسألني عن سري. يحب الخوض في الأمور السياسية والحال السيئة التي آلت إليها البلاد. يعلم أني لا أحب مثل هذه الأحاديث، لكنه مال على اليوم، قال:
"فساد الثورة هو السبب في تردي الأوضاع إلى هذه الدرجة"
انتفضت واقفا كمن لدغه عقرب، انفجر في الضحك هو وزملائي. قال أحدهم بلكنة متهكمة:
"دعه في حاله يا عم صابر، أنت عارف المواطن المستقيل"
انطلقت خارجا من الغرفة تلاحقني ضحكاتهم وتعليقاتهم الساخرة. لم أغضب لسماعي مسمى "المواطن المستقيل"، أعلم أنهم يطلقون على هذا الاسم منذ سنوات، لعدم مشاركتي لهم في أي من حواراتهم السياسية، ونقدهم للأوضاع المعيشية المتردية.
يتهمونني بالتخلي عن حقي كمواطن بامتناعي عن ممارسة حقوقي الدستورية، لكني لا أرى طائل من وراء هذا، جميعهم يتحدثون ولا يفعلون شيئا. هذا يتحدث بكل حماس، الآخر يتبارى معه في نقاش حاد، يفصل بينهما ثالث بنكتة سياسية، يقهقه بعدها الجميع.
لا أخفى عنكم سرا، أحيانا أرفع رأسي عن أكوام الأوراق - التي تنمو أمامي مع الوقت -، أرى أفواههم قد ظهر لها عضلات بارزة، يقوم كل منهم باستعراضها أمام الآخرين.
يعترضون على التوريث، وكلهم يسعون بشتى السبل لإلحاق أبنائهم وأقاربهم بالوظائف التي يعلن عنها فى مصلحتنا الحكومية، يبررون "من نعرف، خيرا ممن لا نعرف".
يصفوني بالجبن وأي منهم يصبح مثل الأرنب المرتعد أمام مديره. كثيرا ما ترتسم على شفتاي ابتسامة، عندما أتخيل أحدهم مرتعدا مثل كتكوت مبتل في ليلة شديدة البرودة، عندما تجرهم هذه الحوارات إلى مشاكل أمنية. مساكين، لم يجربوا معنى الألم، لو جربوه لصانوا ألسنتهم داخل أفواههم.
رحل عم صابر، عدت إلى عملي بين غمزهم ولمزهم. يقضون وقتهم في الشكوى والنميمة، ولا يعملون. يشكون ضئاله الراتب، يدعون أن هذا هو سر عدم إخلاصهم وإتقانهم في العمل، يتخذ بعضهم هذا الأمر ذريعة لقبول الرشاوي أيضا.
يرسلون إلى مكتبي جماهير المواطنين، تاركين معظم العمل على عاتقي، لا يكفون عن قراءة الجرائد، خصوصا جرائد المعارضة التي تشفي غليلهم ببعض السب في الفساد، ولا تأتي بجديد.

أظل غارقا في عملي طيلة اليوم حتى ينتهي كسابقه، استعددت للرحيل، كلفت مكتبي بحراسة الملفات العتيقة، خرجت مودعا المبني المتهالك.
وجدت بائعا للبطيخ واقفا بالقرب من المبني، جال في خاطري أن اشتري بطيخة. أعلم أن هذه الفكرة ستلتهم مني ما يقرب من عشرة جنيهات، صدمني المبلغ حين تخيلته. في الأيام العادية يكون هذا المبلغ كافيا، لينتزع فكرة الشراء من عقلي نزعا، لكن تراقصت أمامي العلاوة الاجتماعية الجديدة، بلغت ثلاثين في المائة هذا العام، مما يعني أني قادر على شراء بطيخة كل أسبوع لمدة شهر بأكمله. حسمت أمري، قررت شرائها، وصيت البائع أن يكون أمينا. أعطاني بطيخة كبيرة الحجم، أخبرني أن أرجع إليه لاسترد نقودي إن لم تعجبني.
حملتها بكل سعادة، انطلقت في طريقي إلى محطة الأتوبيس، وقفت منتظرا كثيرا، مع الوقت تحولت البطيخة إلى حمل ثقيل. بدأت أتصبب عرقا، شعرت أنى أخطأت بعدم شرائها من مكان قريب من البيت. فشلت عدة محاولات لركوب أي من الأتوبيسات التي مرت بي، قررت أن أقف منتظرا حتى يرحل جميع الموظفين وينخفض الزحام قليلا. لكن هذا لم يحدث، بعد رحيل الموظفين، بدأ الطلاب في الظهور. قررت أن أركب مهما كانت العواقب، كادت أن تسقط البطيخة وتنكسر، لكن مر الموقف بسلام.
بعد عدة محطات خلا كرسيا إلى‏ جوار فتاة جميلة. جلست، شعرت بالخجل من رائحة العرق المتصبب من أنحاء جسدي. أخرجت منديلا كبيرا، جففت عرقى، التقطت أنفاسي. راودتني فكرة أن أتكلم معها. تراجعت، فما كنت لأحب أن يتحدث شخص غريب إلى أخت لي، كما أني خجولا جدا، وأيضا لا أريد فتح أبوابا شيطانية، يصعب غلقها فيما بعد، ماذا لو أحببتها؟ كيف سأتزوجها؟. راتبي بالكاد يكفيني حتى نهاية الشهر، لا استطيع أن اشتري حذاءا جديدا إلا كل عام أو عامين، بسبب تلك النزوات العارضة التي تنتابني - مثل شراء هذه البطيخة-. مجانين هؤلاء الناس، يصنعون المشاكل بأيديهم. لا يستطيعون تدبير نفقات المعيشة، لماذا يتزوجون إذا؟.

وصلت إلى بيتي القابع في أحد الأحياء الشعبية، صعدت درجات السلم المتهالكة إلى السطح. بيتي عبارة عن غرفة مصنوعة من ألواح خشبية، تحتل مساحة صغيرة من السطح، المساحة المتبقية مغطاة بالنباتات، لم أترك حبي للنباتات وزراعتها يموت بداخلي.
كنت أحب كثيرا منظر المحاصيل في الحقول، كان هذا قبل أن تغتصب عمليات التبوير والزحف العمراني الأراضي الزراعية. أردت أن أزرع أرضنا بعد التخرج، لكن الزراعة تحتاج إلى الكثير من المال، ما كانت أمى وأخوتي سيصبرون حتى نجني النتائج. بعنا الأرض التي ورثناها عن أبينا. أنفقت نصيبي على علاج أمى، لم يفلح الطب في تخفيف آلامها، توفاها الله.

دخلت غرفتي المتواضعة التي لا تحتوى علي الكثير من الأثاث. كنبة صغيرة أنام عليها، طاولة استخدمها في الأكل والقراءة والزراعة، وإناء يحتوي قلتين.
أخذت قطعة قماش، غمستها في الإناء، تشربت بالماء البارد، لففت بها البطيخة. وضعت البطيخة في جانب ظليل، فوق أرضية الغرفة لكي تبرد. بدلت ملابسي، ارتديت جلبابا فضفاضا، مددت جسدي على الكنبة الموضوعة بجوار النافذة التي يأتيني منها هواء عليل.

مازلت أذكر تلك الحادثة، كنت صبيا، حدث شجار بين ابن العمدة وأخي الأصغر. ركضت صوبهما، اشتبكت مع ابن العمدة، دفعته بقوه، سقط في الترعة. كاد أن يغرق، بينما كانوا ينقذونه، أمسك بى الغفير المكلف بحراسته، أخذ يضربني بقسوة شديدة. جاء أبى مسرعا، رجل ضخم الجثة، قوي البنيان، قاسي الملامح، قلما رأيته يبتسم. شعرت أني وجدت واحتي التي سأستظل بها من نار هذه القسوة. تواريت خلفه، تشبثت بجلبابه وأنا أرتعد. ما أن علم أبي بما حدث، جذب العصا من يد الغفير، ظل يضربني ضربا أشد، لم أدرى بمن استغيث.
جرني إلى البيت جرا، ألقى بي عند أقدام أمي، استغثت بها. أمرها أن توثق يدييَّ وقدميَّ، وأن تربط الحبل في إحدى أرجل السرير. شرعت في تنفيذ الأمر، أخذت أبكي، أرجوها ألا تفعل، - أخبرتني فيما بعد أنها كانت تخشي أن يستمر أبي فى ضربي-. أخذت أقاوم قيدي، حاولت كثيرا أن أقطع هذا الحبل، جرحت يديي، أدميت قدميَّ، خارت قواي ودارت بي الدنيا.
لم أعلم كم مر من الوقت، استيقظت فى حضن أمي. تبكي، تضع الماء على وجهي لأستفيق، لم أشعر لحظتها بأي شفقة نحوها - رغم حبي الشديد لها-. ما أن شعرت أني استرددت وعي، ضربتني بقبضتها في صدري، قائلة:
"لكي لا تعود لمثل هذا"
أصدر أبي قرارا بحرماني من الخروج إلى اللعب مع الأطفال في القرية، لمدة أسبوع كامل. في اليوم التالي، مللت البقاء في البيت، أخذت اقترب من الباب رويدا، رويدا. ركضت، أطلقت ساقاي للريح. ما أجمل نسيم الحرية، كانت أول مرة أعرف معناها الحقيقي، شعرتها بكل كياني. ما أجمل النظر إلى‏ الحقول، الشمس وقت الأصيل، ماء النيل ينساب في مجرى الترعة، طيور تسبح فوق صفحة المياه الصافية، أخرى تحط على الأغصان، تغذي صغارها في حب عجيب.
بعد قليل بدأت أشعر بالخوف من البقاء بمفردي، لا أعرف مكانا أوي إليه غير بيتنا، تقوقعت في مكاني. رآني أصدقائي، نادوني، أصلحوا بيني وبين ابن العمدة، أخذنا نلعب جميعا بكل سعادة، نسيت شعوري بالخوف.
بعد مدة قصيرة من الحرية، امسك بي أخي الأكبر، أعادني إلى‏ البيت. عنفني أبي لعصياني أمره. توعدني بأنه سيقيدني بشدة هذه المرة، سيدهن جسدي بالعسل، ثم يلقي بي في الحقل لتأكلني الفئران حيا. أخذت أصرخ، أرجوه، أقسمت أني لن أعصي له أمرا بعد اليوم، ظل عاقد الحاجبين، بادي الغضب. لم أحتمل هذا المصير، انزويت في أحد الأركان، ارتجف بشدة، أكرر وعودي بأني لن أفعل هذا مرة أخرى.

استيقظ فجأة من نومي وأنا أصرخ، أتصبب عرقا، مازال جسدي ينتفض من فرط الانفعال. مازلت في غرفتي، قد جنا الليل، أسدل أستاره، شعرتها ثقيلة على نفسي. كابوس لم يتوقف عن مهاجمتي منذ ذلك اليوم، كم دعوت الله أن يرحمني منه.
أنهض من مقامي، أتوجه صوب الحوض الصدئ الموجود في الفناء الخارجي، أغسل وجهي. استند إلى‏ السور. لا يدهشني مشهد متكرر لشاب يغازل ابنة جيرانه واستجابتها له. أتركهما في أوهامهما يعمهان.
يشدني مشهد‏ البيوت المتهالكة، الأضواء الخافتة تنبعث من خلف الستائر، أصوات أجهزة التلفاز تتصاعد، تبدو لي الحارة المتعرجة كأنها حية أسطورية، تصدر فحيحها، قبل أن تعتصر سكانها. استنشق الهواء بصعوبة، أشعر كأن نسائمه خناجر حادة تمزق رئتي. تعاودني الذكريات الأليمة، أحاول أن أنفضها عن ذهني.

مرت أيام عصيبة بعد تلك الحادثة، كنت طريح الفراش. بعد أن عدت إلى حالتي الطبيعية، أصبحت لا أفارق بيتنا، إلا للذهاب إلى المدرسة، أو العمل في الحقل. حرمت على نفسي اللعب، كي لا أخطئ مرة أخرى. لم أجد أمامي إلا النباتات التي صادقتها وصادقتني، و"نعمة" ابنة عمي الصغيرة، كانت أحيانا تجلب لي بعضا من الحلوى التي توزع على الأطفال عند وجود عرس.
أرد لها الجميل، أشرح لها أنواع النباتات، الفرق بين النافع والضار منها. تلتهم قطع الحلوى بنهم وسعادة، تضحك كثيرا، تتعجب أكثر من حبي الشديد لهذه النباتات، تمازحني:
"لا أهتم بنباتاتك، مصيرها أن نأكلها أو تأكلها البهائم"
كبرت نعمة، تزوجها ابن العمدة، وددت لو قلت لا، لكني لم اعترض.

مرت الأيام، ذهبت إلى‏ القاهرة لالتحق بالجامعة، كان الطلاب يناقشون في حماس الكثير من الأمور والقضايا، دينية وسياسية، ينصب جم غضبهم على الفساد الذي استشرى في البلاد بطولها وعرضها، ينظمون مظاهرات، وإضرابات، ووقفات اعتصاميه، تجنبتهم وابتعدت عنهم. سمعت أن رجال الأمن يتتبعون المصلين الذين يؤمون مسجد الجامعة، توقفت عن الصلاة فيه. شعرت أن زملائي عيون لهم. مع مرور الوقت، بدأت أتأكد أنهم في كل مكان، يراقبون ويتصنتون، يتتبعوني أينما كنت، يسجلون حتى أنفاسي، أصبحت أصلى مستخدما جفوني، خشية أن يسجلوا فعلى. لم أفعل شيئا ليظلوا في إثري هكذا، لماذا لا يرحلون ويتركوني في حالي؟.

ينتابني شعور غريب، أجوب أرجاء الغرفة بناظري، وقعت عيناي على البطيخة، أحملها برفق إلى الطاولة، أبحث عن السكين، أتذكر أني تخلصت منه بالأمس، خشية أتهامي بإحراز سلاح.
شعور بالخوف يملأ صدري، تسارعت معه نبضات قلبي. تبدو البطيخة كحصن منيع، ضربتها في طرف الطاولة، تشققت، ما أجمل لحظات النصر. أمسك فُتَاتَها المسكين بين أصابعي، أكله بنهم.

أسمع وقع أقدام تقترب. أرفع رأسي، "نعمة"، وجهها المبتسم، ضحكاتها البريئة مازالت ترن في أذني. ما أجملها ليلة عرسها، كأنها البدر ليلة تمامه. تمسك في يديها ابنينا مصطفي ومريم. أمد إليهم يدي المرتعشة بقطعة من البطيخة.
يذهبون بعيدا، يختفون، أناديهم، لا يجيبون. تغرغرت عيناي بالدموع، "ملعونة الدنيا وملعون جنونها".

يملأ الحزن نفسي، تتسارع دقات قلبي كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، ما أصعب الألم. تخرج ضحكة هستيرية دونما إرادة مني، يتصبب العرق من أنحاء جسدي، تنهمر العبرات حارة على وجهي.
أشعر بخوف شديد، أضم ساقي إلي صدري، أنكمش على نفسي. أشعر بالضربات المنهالة على جسدي، أحاول عبثا الدفاع عن نفسي.
أقسم لهم "لن أعود لمثل هذا، لن أعود".


تمت،،،


بقلم: عدنان القماش - مصر.
5 يونيو 2008
أبوظبي، دولة الإمارات العربية المتحدة.



الثلاثاء، أكتوبر 02، 2007

شهر رمضان

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



جلست أمام المرآة، تضبط مساحيقها، حركت الفرشاة الناعمة على خدها، بللت الفرشاة دمعة منحدرة، تباطأت يدها المرتجفة. تذكرت ليلة أمس التي قضتها في حضن أحد أصحاب النفوذ والمال، اشتهاها، فكان حقا عليها أن تلبي. ارتدت أجمل ثيابها، تزينت ، تعطرت. استقبلها بكل حفاوة، اصطحبها إلي واحدة من الخيام الرمضانية من صنف خمس نجوم لتناول السحور. أخذ يداعب مسامعها بمعسول الكلام، يثني على موهبتها النادرة، يبدى إعجابه الشديد بآخِر ‏أعمالها، تجامله بابتسامات مصطنعة. تعاقبت الأحداث، نال منها ما يريده أي حيوان شرس من فريسته. في الصباح وجدت إلي جوار الفراش "شيك" يحمل عددا كبيرا من الأصفار، بالإضافة إلي رسالة يعدها فيها بتحقيق كل ما تمنته عليه بالأمس. أدارت عقل الرجل، امتلكت قلبه، خرجت من بيته أكثر قوة ونفوذاً، لكنها لم تشعر بالسعادة بعد الوصول إلي ما سعت إليه منذ أن هجرها حبيبها الأول وحطم قلبها. مرت بمخيلتها لقطات ذكرتها بوسامة الحبيب الغادر، كلامه المعسول، الشعور بالأمان بين ذراعيه، رأت جنتها في عينيه، فامتلك قلبها وروحها. مازالت تذكر لمسات أصابعه أثناء نزعه حجابها عنها أول مرة، قاسمها بكل قسم أنهما لبعضهما، لن يفرقهما حتى الموت، نهش براءتها ككلب مسعور، شعرت بغصة شديدة، انهمرت دموعها. كم اشتكت إليه صديقتها التي تدعوها إلي استغلال جمالها لتتخلص من حياة البؤس والفقر، يغضب، يبدى غيرته الشديدة عليها. ابتسمت بمرارة عندما تذكرت جملته التي طالما كررها:
- أتمني أن أضمك إلي حضني لأصونك من كل سوء أميرتي الجميلة.
وعد فصدقت، أمر فسلمت، لكنه غدر وخان، تزوج فتاة أوروبية تعرف إليها عن طريق الانترنت. رحل، تركها تذبل مع حبها، كوردة تحتضر في انتظار قطرات الغيث لتبلل أوراقها الجافة. سلبتها نار الحسرة عقلها، أظلم طريقها، هانت عليها نفسها. لجأت إلي صديقتها، اصطحبتها إلي اختبار الوجوه الجديدة، انبهر الجميع بحسنها، رأت في أكثر العيون أبوابا مفتحة على بغيتها. انتقلت من حضن إلي آخر، من كذب إلي كذب، تعلمت الدرس وأتقنته. حققت نجاحا مبهرا، صارت كإحدى أميرات ألف ليلة وليلة، لكنها تضحك بلا فرح، تنفق بلا سعادة. تذكرت أباها، تتململ بينما ينتظران الأتوبيس، يداعبها:
- إذا كنت أنا أمير وأنت أمير، من سيركب الحمير؟
- لماذا نحن من يركب الحمير؟
- احمدي ربك على الصحة والستر، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (1) .
كان أبا طيبا، أحبته كثيرا، لكن كرهت خضوعه لما يلقاه من صنوف الذل والهوان في العمل لساعات طويلة، يرجع إلي البيت متعبا، حاملا ما لا يغني ولا يسمن من جوع. هجرت البيت، ملأت الحسرة قلبه. رأى إعلانات فيلمها الجديد على شاشة التلفاز، ضحكات ماجنة، ملابس فاضحة، أحضان ساخنة، تلقي الطعنة في شرفة الذي لا يملك غيره.
جاء اليوم المشهود بعد نجاح فيلمها، اتصال صاحب النفوذ. أخبرت صديقتها بأمر الدعوة، بشرتها بأنه يوم سعدها - لاشتهار الرجل بالسخاء والجود – ثم كان ما كان.
تذكرت وجهه القبيح، توترت، شعرت بالاشمئزاز الشديد، أسنانه التي طلاها التدخين وشرب الخمر باللون البني الداكن، رائحة أنفاسه الكريهة، ضحكاته التي تشبه صوت حجر ينحدر في بئر سحيق. حاولت تهدئة انفعالاتها بتدخين سيجارة. أمسكت حقيبتها، تذكرت أنه نهار أول أيام رمضان، ترددت قليلا، ابتسمت بمرارة، أشعلت سيجارتها، نفثت دخانها الكثيف. وقعت عيناها على هاتفها المحمول القابع فوق الطاولة، راودتها فكرة الاتصال بأمها. تذكرت آخِر لقاء جمعهما، أبت أمها أن تذهب لتعيش معها في مسكنها الفاخر، أصرت على البقاء إلي جوار ذكرياتها مع زوجها الذي فارق الحياة بحسرته. طالبتها بالعودة عن هذا الطريق المؤدي إلي نار جهنم، ذكرتها بالله، تلت عليها أرجي آية في القرآن "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (2) . رغم التأثير الشديد للآية، أخذت تلاطف أمها، تخبرها أن ما تظنه عن عملها مجرد سوء فهم وفكر رجعي، ما يحدث مجرد تمثيل. نهرتها أمها، أخذت تدفعها خارج البيت، تصرخ فيها أنها تتمني لو لم تلدها، أخذت تتحسر على ما عانته من آلام أثناء حملها وتربيتها.
يقطع سيل أفكارها صوت عامل الاستوديو معلنا أن التصوير سيبدأ بعد دقائق. كفكفت دموعها، أعادت تثبيت المساحيق، ارتدت الحجاب لكي تلعب دورها الجديد في المسلسل الديني الذي يعرض في شهر رمضان.


تنبيه هام: هذه القصة وجميع أحداثها وأشخاصها من خيال الكاتب، ولا تشير من قريب أو بعيد إلي شخص بعينه.
(1) الراوي: عبدالله بن محصن و أبو الدرداء و عبدالله بن عمر - خلاصة الدرجة: حسن - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 6042
(2) آية رقم 53 سورة الزمر.



بقلم: عدنان القماش.
3 أكتوبر 2007
مصر.



الخميس، يونيو 21، 2007

الغيبوبة والإعصار

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



هدوء شديد يغلف تلك الغرفة الكائنة في الطابق الأخير من مبني المستشفى المركزي، لا يكسره غير الصوت الرتيب الصادر عن جهاز قياس نبضات قلب هذا الجسد الذي تعلوه الأسلاك والخراطيم لتمده بالمحاليل التي تعينه على البقاء حيا. تجلس على كرسيها، ممسكة بمصحفها، تتلو بخشوع، يعلو الإيمان قسمات وجهها، رغم الحزن الذي سطر خطوطه العميقة على وجهها عبر سنوات عمرها الطويل. أعوام عديدة مضت ومازالت إلى جواره، تقرأ القرآن، تصلي وتدعو ربها أن يفيق من غيبوبته التي دامت طويلا، رغم حالته الميئوس منها لكنها لم تقنط من رحمة الله.
من وقت لآخر، تتوقف عن التلاوة، تنظر إلى السماء عبر النافذة، ترفع يديها، تدعو الله أن يفرج كربها، يطول الدعاء، تنحدر الدموع على وجنتيها، تمسح وجهها بكفيها، تردد كلمات الحمد والشكر لله عز وجل. تنظر لجسده المستكين، تبتسم عندما تتذكر تلك اللحظات الجميلة التي عاشتها معه، رغم قصر المدة التي كان فيها واعي، إلا إنها لحظات لا تنسي، ذكريات ومشاعر جارفة تسري في عروقها كلما نظرت إليه، رغم علامات الشيخوخة التي غيرت ملامحه، لكنها مازالت تعشقه.
بينما هي غارقة في فيض المشاعر والذكريات، تعلو طرقات خفيفة على الباب، يدخل الطبيب المتابع لحالة زوجها إلى الغرفة، يلقي عليها التحية:
- كيف الحال سيدة وفاء؟
- بخير حال، الحمد لله رب العالمين.
- الحمد لله.
يقترب من السرير لفحص الزوج، يبادرها بسؤال:
- هل ذهبتي لإعداد المؤن لمرحلة ما بعد الإعصار؟ يقولون إنها ستكون مرحلة عصيبة.
- لكني سمعت أنه لن يمر عبر مدينتنا.
- نرجو هذا، لكن ألن تحاولي الهرب مثل الجميع؟
- أهرب إلى أين بني وأترك حياتي؟
لم يدرك أي حياة تتحدث عنها، فهي قابعة في مكانها هذا منذ عقود، تذهب فقط لإحضار بعض الطعام ثم تعود لتبقي إلى جوار هذا الجسد المفقود الأمل في بقائه. يبتسم ابتسامة من لا يملك إجابة ويباشر عمله، تتابعه بعين يملأها الأمل أثناء فحصه لزوجها، كل يوم تنتظر روحها سماع خبر انتهاء غيبوبته، لكن لا شيء، يمسك تلك اللوحة المعلقة بطرف السرير، يكتب بعض المصطلحات الطبية التي لا تفهمها، ثم يذهب. تعود الذكريات لتداعب مخيلتها وتدغدغ اللحظات الرقيقة مشاعرها، تتذكر حبها له منذ أيام الطفولة عندما كانا يلتقيان في اجتماعات الأسرة - فهو بن عمها -، تتذكر لحظة تقدمه لخطبتها، ولا تنسي تلك السعادة الغامرة يوم أغلق عليهما بابا واحدا، يومها قررت أن مصيرهما واحد. تستكين قليلا، ثم تعود إلي جليسها الوحيد في محنتها التي تعيشها لتتلو بعض سوره وآياته.
فجأة يتعالي وقع الخطوات خارج الغرفة، تسمع همهمات وعبارات مقتضبة، أناس يركضون في كل مكان، لم تكترث كثيرا، فهذا ما يحدث دائما عند وصول إحدى الحالات الحرجة، لكن الضجيج استمر طويلا هذه المرة، رفعت عينيها عن المصحف، عبر النافذة رأت الناس يركضون في الشوارع، يموج بعضهم في بعض، من يعبئ سيارته بالطعام والشراب، من يضع أبنائه في سيارته ويبتعد مسرعا، تعجبت لهذا المشهد، تساءلت، هل تكرر ما حدث الشهر الماضي عندما أعلنوا عن انتشار وباء جديد، نتيجة وصول شحنة من الطيور التي تحمل فيروس قاتل، أدخلها أحد المستوردين، امتعض وجهها، تمتمت:
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أكثر الفساد هذه الأيام!
لكن لفت انتباهها تغير لون السماء بسبب الغيوم التي بدأت تظهر في الأفق بشكل كثيف حتى كادت تحجب الشمس، قطع تفكيرها اندفاع الطبيب فجأة عبر الباب، أقشعر بدنها بشده، لم تدرك سر الانقباض الرهيب الذي اعتصر قلبها هذه المرة، لم يتركها في حيرتها، تكلم بتوتر شديد:
- سيدتي، لا أعلم ماذا أقول لك، لكن....
- ماذا بني؟
يحاول أن يحافظ على رباطة جأشه، يلتقط أنفاسه:
- الإعصار غير مساره، سيمر عبر مدينتنا، لذلك تقرر نقل جميع المرضي إلى مكان آخر‏ وإجلاء جميع السكان بعيدا عن البحر.
- ألهذا السبب يركض الناس هكذا؟
- نعم سيدتي، فقد دمر الإعصار كل الطرق المؤدية إلي المدن المنكوبة وعزلها عن الحياة بعد أن قطع عنها كل سبل الاتصال.
- سبحان الله، أيتحول الهواء الذي نتنفسه إلى هذه القوة المدمرة؟ ما أضعف بني أدم.
- لكن سيدتي...
- ماذا بني؟
بدت على وجهه علامات الحزن والتأثر، تلعثم قبل أن ينطق الكلمات ببطء:
- المكان الآخر لا يوجد فيه مستشفى تملك نفس الإمكانات المتاحة هنا، لن يصمد زوجك دون تلك الإمكانات.
نزل عليها الخبر كالصاعقة، لم تعرف بماذا تجيب، احتبست الدموع في عينيها، زاغ بصرها في أرجاء المكان، استمر الصمت لثواني مرت كالدهر، عادت لتنظر إليه راجية، لكنه لم يتحدث، سألته:
- وما العمل بني؟
- الله المستعان سيدتي، لكن لا نملك أن نفعل شيئا، فالإعصار قادم وستنقطع إمدادات المياه والتيار الكهربائي أيضا، كما يخشي الجميع أن تُغرق الفيضانات المصاحبة كل البنايات، كما حدث في المدن الأخرى التي مر عبرها.
نظرت إليه بعين يملأها الحزن والألم، لكنها لم تتحدث:
- الوقت يداهمنا سيدتي، فرق الدفاع المدني في كل مكان يساعدون الناس على الرحيل، يجب أن ترحلي سيدتي.
نظرت إلي حبيبها، ارتعدت، اهتز المصحف في يديها:
- أرحل؟ ماذا عن زوجي؟
نظر إليها بإشفاق، تردد قبل أن يقترح:
- يمكن أن ننقله بإحدى السيارات ونأمل أن يظل صامدا حتى يصل لإحدى المدن الأخرى.
- لا بني، إن قدر لنا أن نموت، فأفضل أن أموت إلي جواره ولعل الله يعطينا فرصة أخيرة.
- لكن يجب أن أبلغ عن وجودك سيدتي ليتم إجلائك.
- أرجوك بني، دعني أقضي آخِر‏ لحظاتي معه.
لا يعلم ماذا يقول، تتحشرج الكلمات في حلقه:
- حسنا سيدتي، لكن يجب أن أذهب لأحاول أن أنقل أسرتي خارج المدينة.
- وفقك الله وهداك وأهلك سواء السبيل، اذهب بني لتنقذ أسرتك.
ينظر إليها بوجه حزين قبل أن يغادر المكان مسرعا، تنظر إلى زوجها نظرة شاردة، تتوجه صوبه، تجلس على طرف السرير، تضع المصحف إلي جواره، تمسك بيده، تمسح جبينه بكل حب وحنان، تكلمه كأم حنون تحدث صغيرها:
- حبيبي، لم أشعر برحيلك رغم مرور كل هذه السنوات؟ يخبرني الجميع أنك لست هنا، لكني أشعر بوجودك كل لحظة، أشعر بأنفاسك تعطر الهواء، مازالت ضحكاتك تتردد في أذناي، أسمع كلماتك الرقيقة بداخلي، لا يمكن أن أكون واهمة كل هذا الوقت.
تتأمل وجهه، تنحدر الدموع علي وجهها، تلتقط أنفاسها:
- حبيبي، أدعو الله كل يوم أن يردك إلى، فأنا تائهة من دونك. أين أذهب؟ أين أجد حلو الحياة؟ الجميع يخشي الموت وأنا أخشي الابتعاد عنك.
تمسح الدموع عن وجهها، تتحدث إليه مبتسمة كأنها تطمئنه:
- حسنا لن أبكي، أعلم أنك لا تحب أن تري دموعي. لكن حبيبي لن أتركك أبدا، سأبقي إلى جوارك، دعني أتلو كلام ربي وأدعوه، فلم أكن يوما بدعاء ربي شقية.
أمسكت المصحف وجلست إلي جوار رأسه، أخذت تتلو سورة النمل، تنسكب الدموع على وجنتيها حتى وصلت لقوله تعالي:
"أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ(62)"
تنتحب بشدة، تنظر إلي السماء التي أصبحت مظلمة، كأنها ليلة بلا قمر، رفعت يديها، أخذت تدعو:
- يا الله، يا واسع الفضل يا عظيم، يا ذا الجلال والإكرام، يا من وسعت قدرته كل شيء، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، اللهم إني أشكو بثي وحزني إليك، اللهم بلغ العمر أرذله واشتعل الرأس شيبا، فمن لي سواك يا الله، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أيقظه من غيبوبته، لنذكرك كثيرا ونشكرك كثيرا، يا واسع الملكوت، يا رب...يا رب...يا رب...
بكت كثيرا، لم تدرك كم مر من الوقت، حتى انتبهت للإعصار يقترب كمارد غاضب، يقتلع الأشجار وأعمدة الإنارة، يحطم الطرقات والكباري، يُغرق البيوت بفيضانات عاتية. تنظر إلي تلك الدوامة العجيبة الشكل التي تبتلع كل شيء في طريقها‏، تشعر بخوف شديد، تقوم إلى سجادة الصلاة، تدخل في صلاتها، تنسي الهموم، بين البكاء والأمل.

بقلم: عدنان القماش.
22 يونيو 2007
سلطنة عمان.

الثلاثاء، سبتمبر 05، 2006

القطار

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



يخرج مسرعاً من بيته متجهاً لعمله، يتحسس طريقه داخل ذلك الزقاق الضيق الذي يقيم به، يسرع الخطى بين تلك البيوت المتهالكة التي لا ينبعث منها غير أصوات الفضائيات المليئة بمن تعرضن مفاتنهن ويتلاعبن بمشاعر البسطاء والمحرومين ليلاً ونهاراً، لكنه اعتاد الأمر أثناء سعيه خلف لقمة العيش كأنه أصبح أمراً واقعاً، توجه لعمله الرتيب الذي يقوم به مقابل مرتب زهيد لا يكفي لسد رمقه أو تحقيق حلمه بالزواج ببنت الجيران التي يعشقها منذ الطفولة والتي وافق أهلها على خطبتهما بعد رفض دام طويلاً، طلبوا منه أن يسافر ليجمع المال الذي يعينه على الزواج، لكنه رفض أن يترك أرضه التي يحبها ويعيش بعيداً عن أسرته وأصدقائه...
يمر على كشك الحراسة الذي به عم شديد، يلقى عليه التحية كما اعتاد كل يوم، يجيبه عم شديد ببروده المعتاد، لكنه لا يكترث لهذا البرود، فاليوم هو اليوم المشهود، سيتم تثبيته بالوظيفة بعد كل هذه السنوات من القلق والصبر على العمل بعقد مؤقت. يصل لمحطة الأتوبيسات، يقف منتظراً الأتوبيس المزدحم الأشبه بعلبة اللحم المفرى، يتململ في وقفته، يخرج من جيبه علبة السجائر الرخيصة، يسحب سيجارة، يشعلها لينفث همومه مع دخانها المتصاعد للسماء، تعجب لأمر سيجارته، تسلبه حياته ولا يتخلي عنها، كمن يرمي نفسه في حضن امرأة‏ لعوب، تعطيه المتعة وتقوده للجحيم، ويحسب أنه يخدعها ويحرق زهرة شبابها...
يأتي الأتوبيس مسرعاً، لا يتوقف في المحطة، لابد أن يركض ليلحق به، يدرك العواقب لو تأخر عن العمل، ارتسمت أمامه صورة مديره واقفاً له بالمرصاد كأنهم يعملون في وكالة لعلوم الفضاء، وكأن الأوراق والمكاتب المتهالكة تشكو لمديره لوعة شوقها إن تأخر.
يركض مسرعاً ويقترب من الباب، يمد له الناس يد العون لينضم لهم وتكتمل منظومة الزحام، يلتقط أنفاسه من فرط المجهود الذي بذله، مازالت السيجارة بفمه، ينظر إليه الناس راجين أن يطفئها، يعز عليه فراقها خصوصاً بعد أن نظر ووجدها مازالت في ربيع عمرها، يسحب نفساً أخيراً طال كقبلة وداع، ثم يلقيها...يأتي الكمسري:
- تذاكر...تذاكر...
يخرج النقود من جيبه، كأنه يقطع من لحمه، يمد بها يده:
- ما هذا يا أستاذ، تعريفة الركوب ارتفعت.
- لماذا؟
- أنت مش عايش في الدنيا ولا إيه؟ البنزين ارتفع سعره يا أستاذ.
- طيب وما علاقة الأتوبيس إن كان يعمل بالسولار؟
يغضب ويسخط لكنه لا يطيل النقاش، يخرج المبلغ المتبقي، يعطيه للكمسري الذي يدفع نحوه التذكرة بقسوة ويتوجه صوب الراكب التالي، يضع التذكرة بحزن في جيبه، ينظر حوله شاكياً حاله للناس:
- كل حاجة في الدنيا سعرها بيزيد إلا البني أدم.
لا يجيبه غير الصوت المرتفع للمحرك وحبات العرق المتصببة على الجباه، فظل واقفاً متأففاً حتى يصل الأتوبيس لمحطة القطارات، يهبط ومعه الكثيرون، ينتشرون كنحل انكسرت الخلية التي يسكنوها، ينظر لساعة المحطة، ميعاد قطاره قد أقترب، يركض، يتفادى الناس برشاقة وحيوية كمن كان يستمتع بجلسة تدليك منعشة داخل الأتوبيس، يصل لرصيف القطار الذي بدأ التحرك مصدراً هذا النفير القوي معلناً بدء رحلة جديدة...
يركض بكل قوته، يتعلق بباب عربة القطار، يقفز قفزة رشيقة فيستقر بداخله، يتكئ على ركبتيه، يلتقط أنفاسه بصعوبة، يأتي الكمسري:
- تذاكر...تذاكر...
يعتدل ليواجهه، تبدو على وجهه علامات الإعياء الشديد، يحدثه الكمسري بحنان الأب:
- ألتقط أنفاسك يا بني، لماذا أنهكت نفسك هكذا ولم تركب القطار التالي؟
- هذا يوم لا يمكن أن أتأخر فيه.
- لماذا؟
- هذا يوم انتهاء العمل بعقد مؤقت وتثبيتي بالوظيفة.
- ألف مبروك، هذا ببركة دعاء الوالدين يا بني، لا تنسي أن تبرهما.
- إن شاء الله وبارك الله فيك.

ثم أخرج من جيبه الاشتراك السنوي في هيئة السكك الحديدية، فحص الكمسري الاشتراك ثم ابتسم وغادر المكان. شعر بحنان غريب لسيجارة، أخرج واحدة من العلبة بلهفه، أشعلها ثم أرتكن بظهره على باب العربة، سبح في أحلامه، العمل الثابت، المستقبل، الاستقرار، الزواج بمحبوبته، تكوين بيتاً سعيداً ينعم فيه بكل الحب والهناء، مساعدة أبيه الذي نال الشيب منه، تعويض أمه وشقيقاته عن أيام العوز والفقر، سيشتري لأمه الشال الحرير الذي كانت تتمناه، سيشتري خروفاً كبيراً بقدوم العيد و...و...و...
في أثناء ذلك خرج شخص أخر ليشعل سيجارة - من النوع الفاخر– تاقت نفسه لينال واحدة من هذا النوع، لكنه نظر لسيجارته وأكتفي بنصيبه...
سحب نفساً من سيجارته ليعلن لها عن رضاه، ثم عاد لأحلامه وأفكاره مرة أخري، استرجع كلام أصحابه الذين سئموا البقاء والاستمرار في هذه الأحوال الصعبة وتفرقوا في كل بقاع الأرض. كم أفتقدهم جميعاً، خاصة أعزهم وأقربهم لقلبه الذي لم يراه منذ أكثر من عامين، تذكر آخر محادثة لهما على الهاتف:
- كيف الحال يا زعيم؟
- تمام الحمد لله، وحشتني قوي يا بني.
- أنت كمان. قولي بقى، قررت القدوم للعمل؟ مجال خبرتك مطلوب هنا جداً.
- لا يا عم، لا يمكن أن أبتعد عن أهلي؟
- يا بني سيبك من الكلام ده، خليك تعرف تتزوج وتعيش لك يومين.
- يا عم الرزق على الله.

سحب نفساً عميقاً أنشلت به كل خلايا عقله كمن تلقي صدمة كهربائية عنيفة، ثم هدأت تماماً، استكان عقله ثم عاد للعمل مرة أخري، تذكر سبب تأخره اليوم، أمتعض وجهه عندما تذكر أنه كان يتابع هذا الفيلم المثير ولم يستيقظ لصلاة الفجر وكاد أن لا يلحق بالقطار، وعد نفسه أنه لن يضيع صلاة الفجر مرة أخري وسيتوقف عن متابعة هذه الأفلام التي لا طائل من ورائها...يرن هاتفه المحمول رنة مقتضبة، ينظر بلهفة، يجد رقم محبوبته تلقي عليه تحيه الصباح، ابتسم عندما تذكر ملامحها الهادئة وتلك الأوقات الجميلة التي تمر معها دون أن يشعر وكأن عقارب الساعة تتوقف. يرفع هاتفه ليرد التحية بالمثل، ينظر من نافذة القطار ليلقي السيجارة، يستوقفه جمال الطبيعة وذلك اللون الأخضر الجميل الذي يغطي المزارع، يملأ صدره بالهواء النقي القادم من تلك الحقول، يتحسر لما فعله التدخين برئتيه، فوعد نفسه بالتوقف عن التدخين وردد:
- نعم سأسعى لهذا في أقرب وقت.
يتوجه ليفتح الباب ليدخل العربة، لكن فجأة يهتز القطار بشدة إثر ارتطام عنيف كاد صوته أن يصم الآذان‏، يسقط على الأرض، ينقلب القطار رأساً على عقب، الصرخات والأنات علت على صوت المعدن الذي تكوم على بعضه حاصداً الناس وجامعاً همومهم وأحلامهم بعضها على بعض...
عم الصمت التام الذي لم يقطعه سوى صوت هاتفه المحمول الذي رن للمرة الأخيرة...

الاثنين، مايو 29، 2006

ذات العيون الملونة

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



دخل المكان بثقته المعتادة, تكاد تسمع صوت خطواته الراسخة على الأرض.
بهي الطلعة, يعلم أنه محط للأنظار.
لا يتلفت حوله كثيرا و لا يكترث لنظرات النساء.
فبجانب إيمانه بأن العين تزني و زناها النظر,
بدأ يوقن بأنه لن يجد المرأة التي يبحث عنها في هذه الحياة.

عيون مختلفة ألوانها تحاوره راجيتا, لكنه يأبى.
كلها تبدو كأبواب مغلقة, تحمل نفس اللون الرمادي الداكن.
لا تقوده لهذا السحر الكامن في روح حبيبة الأحلام.

توجه بهدوء صوب الطاولة حيث رفاقه.
لم تفارق وجهه تلك الابتسامة, التي تضفى على مظهره ثقة وغموض.

أخذ يمازحهم كعادته, يطلق النكات, فتعلو الضحكات.
يبدو كأسعد أهل الدنيا, لكن تسكن بداخله الأحزان.
إثر فقده المحور الذي تدور حوله أفكاره و نجاحاته.
ماتت أمه التي علمته أن يكون قويا.
فتجده صلبا, صامتا كجبل, لا يصدر الأنات.

لكن قلبه - رغم أحزانه و قنوطه - لم يتوقف عن النبض مناديا معشوقته,
مستغيثا كغريق تتقاذفه الأمواج.

مثل سائر الأيام, تسير الأمور بشكل رتيب.
لكن هذه المرة يشعر بطاقة عجيبة تملئ المكان.

أثناء لهوه, ناداه صمتها.
ينظر, يراها جالسة بشموخ بهره.
لا تكترث مثله لأحد, و تتفادى النظرات.

تجمد الوقت. بدأت أصوات أصحابه تبتعد, حتى عم الصمت.
ثم يسمع دقات قلبه تعلو, عندما تلاقت النظرات.

رمشت عيناه, فأومض المكان...

وجد‏ نفسه فوق ربوة مرتفعة تطل على بحيرة زرقاء.
تحيطها رمال تحمل بريق الماس, و كل عطور الدنيا ملئت الوديان.
نظر بعيدا, رآها جالسة بثوبها الأزرق الفضفاض, و الطبيعة من حولها تدللها.

يخجل من حسنها القمر و يحتجب, لتسكن عيناها كبد السماء.

شعرها كالليل. يحمله الهواء بعشق, و يرتفع طائرا.
ثم لا يقدر على حسنه, فيتركه ينسدل برفق على ظهرها.
معلننا مولد ليلة لم تُسطر بكُتُب‏ الأساطير و الحكايات.

تحتفل البحيرة بصورة وجهها, فتطلق القطرات,
لترسم القلوب في الآفاق, تتراقص حبات الرذاذ حول تلك القلوب.
كل شيء يحتفل بجمال عينيها الزرقاء.

يقف بعيدا. يلمحه الرذاذ, فيناديه: "اقترب".
يشعر بجناحي الشوق يحملانه إلي جوارها.
يراها ترسم بأناملها الرقيقة لفظ الجلالة على الرمال.
من دون أن يشعر, ردد: "الله".

ألتفتت إليه, ذهل بجمالها الذي أجبره على إغلاق عينيه.
تحسر لضياع تلك اللحظة, فأسرع يسابق أشارات عقله ليستعيد ذلك النور المفقود.

تحتضن الأشجار المكان بحنان, و تشبك فوقه الأغصان.
تنفذ من خلالها أشعة الشمس برفق,
ثم تداعب الأطراف الذهبية للعشب الأخضر الذي يكسو الأرض.
قبل أن تنعكس على شلالات الفضة التي تنحدر على صخور اللؤلؤ و المرجان.
فتصدر خريرا ناعما, يأسر الوجدان.

يبحث عنها بلهفة, يراها تتهادى بجوار نخيل الواحة الغناء.
مرتديه ثوبا أخضر مرصعا بخيوط الذهب و الكهرمان.
تترنم بلحن عذب...
فتنتحر الورود و الياسمين تحت قدميها لكي لا تطأ ما سواهم, و تتمايل الجذوع و الأغصان.

جلست إلى طاولة من فضة, تداعب قطع الشطرنج.
يقترب منها, ثم يجلس. يخفق قلبه بشدة, و يحرك أول قطعة.
تبتسم بدلال و خجل, كأنها تعرف حركته الأولى منذ قديم الأزل.
ثم تنظر له, و تطرح عيناها الخضراء أسئلة كثيرة.
ينبهر بجمالها, فيقولها مرة أخرى:‏ "الله".

أراد أن يخبرها كل كلام العشق و الغرام, لكنه استنفد ما هو مباح.

قد حان الوقت ليغلق عينيه...

نازعته نفسه ليراها مجددا, لكن أتاه صوت صاحبه ليخرجه من جنة هذه الأحلام:
- "الله"؟ ما بك يا صديقي, أتحلم و أنت مستيقظ؟
ذهل عندما وجد نفسه محاطا بنفس المكان.
نظر حيث تجلس ليتأكد من وجودها. نعم, ليس خيال.
فأشاح بوجهه مسرعا, لكي لا تخطفه عيناها إلى جزر الأحلام.
مال ناحية صاحبه و همس له:
- أترى تلك الفتاة...ذات العيون الملونة؟
- أتقصد تلك الفتاة ذات الحجاب الأخضر؟
- نعم.
- أراها, لكن...عيناها ليستا ملونتين.

وضع يده بجانب وجهه متفاديا رؤيتها, كمن يتفادى النظر إلى الشمس:
- سلامة عيناك؟
- خبرني...ما لون عيناها إذا يا صقر الفلاة؟

تحير, لقد رآهما بكل ألوان الطيف. قال مترددا:
- ز ز...زرقاء. لا, لا لا...إنها خضراء. لا, لا..إنها...
قاطعه صاحبه ساخرا:
- ما هذا...أسقط أبا الفوارس أسيرا؟

شعر بالخجل. كان دائما يسخر من كل أصحابه.
متباهي بأنه لم و لن تقدر عليه أي من بنات حواء.
تلعثم و تملص من الإجابة:
- عجبت لأمرك أخي. سألتك سؤالا محددا "أتعرف من هي؟"
- لا تغضب, ما يسعدك يسعدني. نعم, أعرفها و أعرف أهلها جيدا.
لذلك أخبرتك "عيناها ليستا ملونتين".

تعجب لكلام صاحبه, لكن حدثته نفسه مستنكره:
"ما أدراه بأمر الأعين؟. آآآه, لو رأى‏ ما رأينا"

ثم انهال على صاحبه بالأسئلة ملهوفا,
كتائه في صحراء وجد على مدى أفقه واحة ظليلة:
- أراها و أهلها على خلق و دين؟ فهل هم كذلك؟ و هل...و هل...
ضحك صاحبه:
- تمهل, رفقا بنفسك. نعم, أحسبهم كذلك و أكثر. و لا نزكي على الله أحداً.

تردد قليلا قبل أن يسأل بخوف و قلق:
- هل هي مرتبطة؟
مر الوقت كالدهر. لم يجب صاحبه, فلكزه برفق ليتكلم, فتأوه:
- آآآه, حسنا حسنا. أنت تعلم أنك حبيبي. لكن...؟.
ثم صمت ثانية وعلى وجهه ابتسامة ماكرة.
شعر بأمواج عارمة بداخله, بدأ يتوتر, و كاد أن يوبخه.
لكن صاحبه رفق بحاله:
- لا, ليست مرتبطة.

كاد يطير من شدة الفرح. أراد أن يعانقه...و...
قاطعه صاحبه قبل أن يغرق في بحور الأحلام ثانية:
- ماذا بعد يا فارسنا الهمام. أتحب أن أقدمك لها و لأهلها الآن؟
- لا. سأستخير ربي أولا. ثم نسأل عنهم أكثر, لنتيقن.
قال صاحبه:
- هذا ما عهدته فيك, لا تغلب مشاعرك على دينك.

ثم أخذ يداعبه بأداء مسرحي:
- خبرني. هل ستفرش لها الأرض ذهبا و مرجانا وحريرا؟.
و تكون الفارس الأسطوري الذي يخفق قلبه لها وحدها.
يحارب الوحوش من أجل أن يعيد لها جناحيها.
و كل هذا الكلام الذي أزعجتنا به طيلة حياتك.

- تعرفني جيدا. لو ملكت الدنيا لوهبتها لمن أحب.
- آلا تخشى أن ترفضك؟
ابتسم, ابتسامة الواثق بربه:
- هذا نصيب, قد خلق الله كل شيء بقدر.
غمز بعينه, ثم قال ضاحكا:
- دعني أسألك, هل رفض أحدا من قبل أن يدخل التاريخ؟.