الثلاثاء، أكتوبر 02، 2007

شهر رمضان

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



جلست أمام المرآة، تضبط مساحيقها، حركت الفرشاة الناعمة على خدها، بللت الفرشاة دمعة منحدرة، تباطأت يدها المرتجفة. تذكرت ليلة أمس التي قضتها في حضن أحد أصحاب النفوذ والمال، اشتهاها، فكان حقا عليها أن تلبي. ارتدت أجمل ثيابها، تزينت ، تعطرت. استقبلها بكل حفاوة، اصطحبها إلي واحدة من الخيام الرمضانية من صنف خمس نجوم لتناول السحور. أخذ يداعب مسامعها بمعسول الكلام، يثني على موهبتها النادرة، يبدى إعجابه الشديد بآخِر ‏أعمالها، تجامله بابتسامات مصطنعة. تعاقبت الأحداث، نال منها ما يريده أي حيوان شرس من فريسته. في الصباح وجدت إلي جوار الفراش "شيك" يحمل عددا كبيرا من الأصفار، بالإضافة إلي رسالة يعدها فيها بتحقيق كل ما تمنته عليه بالأمس. أدارت عقل الرجل، امتلكت قلبه، خرجت من بيته أكثر قوة ونفوذاً، لكنها لم تشعر بالسعادة بعد الوصول إلي ما سعت إليه منذ أن هجرها حبيبها الأول وحطم قلبها. مرت بمخيلتها لقطات ذكرتها بوسامة الحبيب الغادر، كلامه المعسول، الشعور بالأمان بين ذراعيه، رأت جنتها في عينيه، فامتلك قلبها وروحها. مازالت تذكر لمسات أصابعه أثناء نزعه حجابها عنها أول مرة، قاسمها بكل قسم أنهما لبعضهما، لن يفرقهما حتى الموت، نهش براءتها ككلب مسعور، شعرت بغصة شديدة، انهمرت دموعها. كم اشتكت إليه صديقتها التي تدعوها إلي استغلال جمالها لتتخلص من حياة البؤس والفقر، يغضب، يبدى غيرته الشديدة عليها. ابتسمت بمرارة عندما تذكرت جملته التي طالما كررها:
- أتمني أن أضمك إلي حضني لأصونك من كل سوء أميرتي الجميلة.
وعد فصدقت، أمر فسلمت، لكنه غدر وخان، تزوج فتاة أوروبية تعرف إليها عن طريق الانترنت. رحل، تركها تذبل مع حبها، كوردة تحتضر في انتظار قطرات الغيث لتبلل أوراقها الجافة. سلبتها نار الحسرة عقلها، أظلم طريقها، هانت عليها نفسها. لجأت إلي صديقتها، اصطحبتها إلي اختبار الوجوه الجديدة، انبهر الجميع بحسنها، رأت في أكثر العيون أبوابا مفتحة على بغيتها. انتقلت من حضن إلي آخر، من كذب إلي كذب، تعلمت الدرس وأتقنته. حققت نجاحا مبهرا، صارت كإحدى أميرات ألف ليلة وليلة، لكنها تضحك بلا فرح، تنفق بلا سعادة. تذكرت أباها، تتململ بينما ينتظران الأتوبيس، يداعبها:
- إذا كنت أنا أمير وأنت أمير، من سيركب الحمير؟
- لماذا نحن من يركب الحمير؟
- احمدي ربك على الصحة والستر، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (1) .
كان أبا طيبا، أحبته كثيرا، لكن كرهت خضوعه لما يلقاه من صنوف الذل والهوان في العمل لساعات طويلة، يرجع إلي البيت متعبا، حاملا ما لا يغني ولا يسمن من جوع. هجرت البيت، ملأت الحسرة قلبه. رأى إعلانات فيلمها الجديد على شاشة التلفاز، ضحكات ماجنة، ملابس فاضحة، أحضان ساخنة، تلقي الطعنة في شرفة الذي لا يملك غيره.
جاء اليوم المشهود بعد نجاح فيلمها، اتصال صاحب النفوذ. أخبرت صديقتها بأمر الدعوة، بشرتها بأنه يوم سعدها - لاشتهار الرجل بالسخاء والجود – ثم كان ما كان.
تذكرت وجهه القبيح، توترت، شعرت بالاشمئزاز الشديد، أسنانه التي طلاها التدخين وشرب الخمر باللون البني الداكن، رائحة أنفاسه الكريهة، ضحكاته التي تشبه صوت حجر ينحدر في بئر سحيق. حاولت تهدئة انفعالاتها بتدخين سيجارة. أمسكت حقيبتها، تذكرت أنه نهار أول أيام رمضان، ترددت قليلا، ابتسمت بمرارة، أشعلت سيجارتها، نفثت دخانها الكثيف. وقعت عيناها على هاتفها المحمول القابع فوق الطاولة، راودتها فكرة الاتصال بأمها. تذكرت آخِر لقاء جمعهما، أبت أمها أن تذهب لتعيش معها في مسكنها الفاخر، أصرت على البقاء إلي جوار ذكرياتها مع زوجها الذي فارق الحياة بحسرته. طالبتها بالعودة عن هذا الطريق المؤدي إلي نار جهنم، ذكرتها بالله، تلت عليها أرجي آية في القرآن "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (2) . رغم التأثير الشديد للآية، أخذت تلاطف أمها، تخبرها أن ما تظنه عن عملها مجرد سوء فهم وفكر رجعي، ما يحدث مجرد تمثيل. نهرتها أمها، أخذت تدفعها خارج البيت، تصرخ فيها أنها تتمني لو لم تلدها، أخذت تتحسر على ما عانته من آلام أثناء حملها وتربيتها.
يقطع سيل أفكارها صوت عامل الاستوديو معلنا أن التصوير سيبدأ بعد دقائق. كفكفت دموعها، أعادت تثبيت المساحيق، ارتدت الحجاب لكي تلعب دورها الجديد في المسلسل الديني الذي يعرض في شهر رمضان.


تنبيه هام: هذه القصة وجميع أحداثها وأشخاصها من خيال الكاتب، ولا تشير من قريب أو بعيد إلي شخص بعينه.
(1) الراوي: عبدالله بن محصن و أبو الدرداء و عبدالله بن عمر - خلاصة الدرجة: حسن - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 6042
(2) آية رقم 53 سورة الزمر.



بقلم: عدنان القماش.
3 أكتوبر 2007
مصر.



الخميس، يونيو 21، 2007

الغيبوبة والإعصار

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



هدوء شديد يغلف تلك الغرفة الكائنة في الطابق الأخير من مبني المستشفى المركزي، لا يكسره غير الصوت الرتيب الصادر عن جهاز قياس نبضات قلب هذا الجسد الذي تعلوه الأسلاك والخراطيم لتمده بالمحاليل التي تعينه على البقاء حيا. تجلس على كرسيها، ممسكة بمصحفها، تتلو بخشوع، يعلو الإيمان قسمات وجهها، رغم الحزن الذي سطر خطوطه العميقة على وجهها عبر سنوات عمرها الطويل. أعوام عديدة مضت ومازالت إلى جواره، تقرأ القرآن، تصلي وتدعو ربها أن يفيق من غيبوبته التي دامت طويلا، رغم حالته الميئوس منها لكنها لم تقنط من رحمة الله.
من وقت لآخر، تتوقف عن التلاوة، تنظر إلى السماء عبر النافذة، ترفع يديها، تدعو الله أن يفرج كربها، يطول الدعاء، تنحدر الدموع على وجنتيها، تمسح وجهها بكفيها، تردد كلمات الحمد والشكر لله عز وجل. تنظر لجسده المستكين، تبتسم عندما تتذكر تلك اللحظات الجميلة التي عاشتها معه، رغم قصر المدة التي كان فيها واعي، إلا إنها لحظات لا تنسي، ذكريات ومشاعر جارفة تسري في عروقها كلما نظرت إليه، رغم علامات الشيخوخة التي غيرت ملامحه، لكنها مازالت تعشقه.
بينما هي غارقة في فيض المشاعر والذكريات، تعلو طرقات خفيفة على الباب، يدخل الطبيب المتابع لحالة زوجها إلى الغرفة، يلقي عليها التحية:
- كيف الحال سيدة وفاء؟
- بخير حال، الحمد لله رب العالمين.
- الحمد لله.
يقترب من السرير لفحص الزوج، يبادرها بسؤال:
- هل ذهبتي لإعداد المؤن لمرحلة ما بعد الإعصار؟ يقولون إنها ستكون مرحلة عصيبة.
- لكني سمعت أنه لن يمر عبر مدينتنا.
- نرجو هذا، لكن ألن تحاولي الهرب مثل الجميع؟
- أهرب إلى أين بني وأترك حياتي؟
لم يدرك أي حياة تتحدث عنها، فهي قابعة في مكانها هذا منذ عقود، تذهب فقط لإحضار بعض الطعام ثم تعود لتبقي إلى جوار هذا الجسد المفقود الأمل في بقائه. يبتسم ابتسامة من لا يملك إجابة ويباشر عمله، تتابعه بعين يملأها الأمل أثناء فحصه لزوجها، كل يوم تنتظر روحها سماع خبر انتهاء غيبوبته، لكن لا شيء، يمسك تلك اللوحة المعلقة بطرف السرير، يكتب بعض المصطلحات الطبية التي لا تفهمها، ثم يذهب. تعود الذكريات لتداعب مخيلتها وتدغدغ اللحظات الرقيقة مشاعرها، تتذكر حبها له منذ أيام الطفولة عندما كانا يلتقيان في اجتماعات الأسرة - فهو بن عمها -، تتذكر لحظة تقدمه لخطبتها، ولا تنسي تلك السعادة الغامرة يوم أغلق عليهما بابا واحدا، يومها قررت أن مصيرهما واحد. تستكين قليلا، ثم تعود إلي جليسها الوحيد في محنتها التي تعيشها لتتلو بعض سوره وآياته.
فجأة يتعالي وقع الخطوات خارج الغرفة، تسمع همهمات وعبارات مقتضبة، أناس يركضون في كل مكان، لم تكترث كثيرا، فهذا ما يحدث دائما عند وصول إحدى الحالات الحرجة، لكن الضجيج استمر طويلا هذه المرة، رفعت عينيها عن المصحف، عبر النافذة رأت الناس يركضون في الشوارع، يموج بعضهم في بعض، من يعبئ سيارته بالطعام والشراب، من يضع أبنائه في سيارته ويبتعد مسرعا، تعجبت لهذا المشهد، تساءلت، هل تكرر ما حدث الشهر الماضي عندما أعلنوا عن انتشار وباء جديد، نتيجة وصول شحنة من الطيور التي تحمل فيروس قاتل، أدخلها أحد المستوردين، امتعض وجهها، تمتمت:
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أكثر الفساد هذه الأيام!
لكن لفت انتباهها تغير لون السماء بسبب الغيوم التي بدأت تظهر في الأفق بشكل كثيف حتى كادت تحجب الشمس، قطع تفكيرها اندفاع الطبيب فجأة عبر الباب، أقشعر بدنها بشده، لم تدرك سر الانقباض الرهيب الذي اعتصر قلبها هذه المرة، لم يتركها في حيرتها، تكلم بتوتر شديد:
- سيدتي، لا أعلم ماذا أقول لك، لكن....
- ماذا بني؟
يحاول أن يحافظ على رباطة جأشه، يلتقط أنفاسه:
- الإعصار غير مساره، سيمر عبر مدينتنا، لذلك تقرر نقل جميع المرضي إلى مكان آخر‏ وإجلاء جميع السكان بعيدا عن البحر.
- ألهذا السبب يركض الناس هكذا؟
- نعم سيدتي، فقد دمر الإعصار كل الطرق المؤدية إلي المدن المنكوبة وعزلها عن الحياة بعد أن قطع عنها كل سبل الاتصال.
- سبحان الله، أيتحول الهواء الذي نتنفسه إلى هذه القوة المدمرة؟ ما أضعف بني أدم.
- لكن سيدتي...
- ماذا بني؟
بدت على وجهه علامات الحزن والتأثر، تلعثم قبل أن ينطق الكلمات ببطء:
- المكان الآخر لا يوجد فيه مستشفى تملك نفس الإمكانات المتاحة هنا، لن يصمد زوجك دون تلك الإمكانات.
نزل عليها الخبر كالصاعقة، لم تعرف بماذا تجيب، احتبست الدموع في عينيها، زاغ بصرها في أرجاء المكان، استمر الصمت لثواني مرت كالدهر، عادت لتنظر إليه راجية، لكنه لم يتحدث، سألته:
- وما العمل بني؟
- الله المستعان سيدتي، لكن لا نملك أن نفعل شيئا، فالإعصار قادم وستنقطع إمدادات المياه والتيار الكهربائي أيضا، كما يخشي الجميع أن تُغرق الفيضانات المصاحبة كل البنايات، كما حدث في المدن الأخرى التي مر عبرها.
نظرت إليه بعين يملأها الحزن والألم، لكنها لم تتحدث:
- الوقت يداهمنا سيدتي، فرق الدفاع المدني في كل مكان يساعدون الناس على الرحيل، يجب أن ترحلي سيدتي.
نظرت إلي حبيبها، ارتعدت، اهتز المصحف في يديها:
- أرحل؟ ماذا عن زوجي؟
نظر إليها بإشفاق، تردد قبل أن يقترح:
- يمكن أن ننقله بإحدى السيارات ونأمل أن يظل صامدا حتى يصل لإحدى المدن الأخرى.
- لا بني، إن قدر لنا أن نموت، فأفضل أن أموت إلي جواره ولعل الله يعطينا فرصة أخيرة.
- لكن يجب أن أبلغ عن وجودك سيدتي ليتم إجلائك.
- أرجوك بني، دعني أقضي آخِر‏ لحظاتي معه.
لا يعلم ماذا يقول، تتحشرج الكلمات في حلقه:
- حسنا سيدتي، لكن يجب أن أذهب لأحاول أن أنقل أسرتي خارج المدينة.
- وفقك الله وهداك وأهلك سواء السبيل، اذهب بني لتنقذ أسرتك.
ينظر إليها بوجه حزين قبل أن يغادر المكان مسرعا، تنظر إلى زوجها نظرة شاردة، تتوجه صوبه، تجلس على طرف السرير، تضع المصحف إلي جواره، تمسك بيده، تمسح جبينه بكل حب وحنان، تكلمه كأم حنون تحدث صغيرها:
- حبيبي، لم أشعر برحيلك رغم مرور كل هذه السنوات؟ يخبرني الجميع أنك لست هنا، لكني أشعر بوجودك كل لحظة، أشعر بأنفاسك تعطر الهواء، مازالت ضحكاتك تتردد في أذناي، أسمع كلماتك الرقيقة بداخلي، لا يمكن أن أكون واهمة كل هذا الوقت.
تتأمل وجهه، تنحدر الدموع علي وجهها، تلتقط أنفاسها:
- حبيبي، أدعو الله كل يوم أن يردك إلى، فأنا تائهة من دونك. أين أذهب؟ أين أجد حلو الحياة؟ الجميع يخشي الموت وأنا أخشي الابتعاد عنك.
تمسح الدموع عن وجهها، تتحدث إليه مبتسمة كأنها تطمئنه:
- حسنا لن أبكي، أعلم أنك لا تحب أن تري دموعي. لكن حبيبي لن أتركك أبدا، سأبقي إلى جوارك، دعني أتلو كلام ربي وأدعوه، فلم أكن يوما بدعاء ربي شقية.
أمسكت المصحف وجلست إلي جوار رأسه، أخذت تتلو سورة النمل، تنسكب الدموع على وجنتيها حتى وصلت لقوله تعالي:
"أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ(62)"
تنتحب بشدة، تنظر إلي السماء التي أصبحت مظلمة، كأنها ليلة بلا قمر، رفعت يديها، أخذت تدعو:
- يا الله، يا واسع الفضل يا عظيم، يا ذا الجلال والإكرام، يا من وسعت قدرته كل شيء، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، اللهم إني أشكو بثي وحزني إليك، اللهم بلغ العمر أرذله واشتعل الرأس شيبا، فمن لي سواك يا الله، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أيقظه من غيبوبته، لنذكرك كثيرا ونشكرك كثيرا، يا واسع الملكوت، يا رب...يا رب...يا رب...
بكت كثيرا، لم تدرك كم مر من الوقت، حتى انتبهت للإعصار يقترب كمارد غاضب، يقتلع الأشجار وأعمدة الإنارة، يحطم الطرقات والكباري، يُغرق البيوت بفيضانات عاتية. تنظر إلي تلك الدوامة العجيبة الشكل التي تبتلع كل شيء في طريقها‏، تشعر بخوف شديد، تقوم إلى سجادة الصلاة، تدخل في صلاتها، تنسي الهموم، بين البكاء والأمل.

بقلم: عدنان القماش.
22 يونيو 2007
سلطنة عمان.