الثلاثاء، سبتمبر 05، 2006

القطار

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



يخرج مسرعاً من بيته متجهاً لعمله، يتحسس طريقه داخل ذلك الزقاق الضيق الذي يقيم به، يسرع الخطى بين تلك البيوت المتهالكة التي لا ينبعث منها غير أصوات الفضائيات المليئة بمن تعرضن مفاتنهن ويتلاعبن بمشاعر البسطاء والمحرومين ليلاً ونهاراً، لكنه اعتاد الأمر أثناء سعيه خلف لقمة العيش كأنه أصبح أمراً واقعاً، توجه لعمله الرتيب الذي يقوم به مقابل مرتب زهيد لا يكفي لسد رمقه أو تحقيق حلمه بالزواج ببنت الجيران التي يعشقها منذ الطفولة والتي وافق أهلها على خطبتهما بعد رفض دام طويلاً، طلبوا منه أن يسافر ليجمع المال الذي يعينه على الزواج، لكنه رفض أن يترك أرضه التي يحبها ويعيش بعيداً عن أسرته وأصدقائه...
يمر على كشك الحراسة الذي به عم شديد، يلقى عليه التحية كما اعتاد كل يوم، يجيبه عم شديد ببروده المعتاد، لكنه لا يكترث لهذا البرود، فاليوم هو اليوم المشهود، سيتم تثبيته بالوظيفة بعد كل هذه السنوات من القلق والصبر على العمل بعقد مؤقت. يصل لمحطة الأتوبيسات، يقف منتظراً الأتوبيس المزدحم الأشبه بعلبة اللحم المفرى، يتململ في وقفته، يخرج من جيبه علبة السجائر الرخيصة، يسحب سيجارة، يشعلها لينفث همومه مع دخانها المتصاعد للسماء، تعجب لأمر سيجارته، تسلبه حياته ولا يتخلي عنها، كمن يرمي نفسه في حضن امرأة‏ لعوب، تعطيه المتعة وتقوده للجحيم، ويحسب أنه يخدعها ويحرق زهرة شبابها...
يأتي الأتوبيس مسرعاً، لا يتوقف في المحطة، لابد أن يركض ليلحق به، يدرك العواقب لو تأخر عن العمل، ارتسمت أمامه صورة مديره واقفاً له بالمرصاد كأنهم يعملون في وكالة لعلوم الفضاء، وكأن الأوراق والمكاتب المتهالكة تشكو لمديره لوعة شوقها إن تأخر.
يركض مسرعاً ويقترب من الباب، يمد له الناس يد العون لينضم لهم وتكتمل منظومة الزحام، يلتقط أنفاسه من فرط المجهود الذي بذله، مازالت السيجارة بفمه، ينظر إليه الناس راجين أن يطفئها، يعز عليه فراقها خصوصاً بعد أن نظر ووجدها مازالت في ربيع عمرها، يسحب نفساً أخيراً طال كقبلة وداع، ثم يلقيها...يأتي الكمسري:
- تذاكر...تذاكر...
يخرج النقود من جيبه، كأنه يقطع من لحمه، يمد بها يده:
- ما هذا يا أستاذ، تعريفة الركوب ارتفعت.
- لماذا؟
- أنت مش عايش في الدنيا ولا إيه؟ البنزين ارتفع سعره يا أستاذ.
- طيب وما علاقة الأتوبيس إن كان يعمل بالسولار؟
يغضب ويسخط لكنه لا يطيل النقاش، يخرج المبلغ المتبقي، يعطيه للكمسري الذي يدفع نحوه التذكرة بقسوة ويتوجه صوب الراكب التالي، يضع التذكرة بحزن في جيبه، ينظر حوله شاكياً حاله للناس:
- كل حاجة في الدنيا سعرها بيزيد إلا البني أدم.
لا يجيبه غير الصوت المرتفع للمحرك وحبات العرق المتصببة على الجباه، فظل واقفاً متأففاً حتى يصل الأتوبيس لمحطة القطارات، يهبط ومعه الكثيرون، ينتشرون كنحل انكسرت الخلية التي يسكنوها، ينظر لساعة المحطة، ميعاد قطاره قد أقترب، يركض، يتفادى الناس برشاقة وحيوية كمن كان يستمتع بجلسة تدليك منعشة داخل الأتوبيس، يصل لرصيف القطار الذي بدأ التحرك مصدراً هذا النفير القوي معلناً بدء رحلة جديدة...
يركض بكل قوته، يتعلق بباب عربة القطار، يقفز قفزة رشيقة فيستقر بداخله، يتكئ على ركبتيه، يلتقط أنفاسه بصعوبة، يأتي الكمسري:
- تذاكر...تذاكر...
يعتدل ليواجهه، تبدو على وجهه علامات الإعياء الشديد، يحدثه الكمسري بحنان الأب:
- ألتقط أنفاسك يا بني، لماذا أنهكت نفسك هكذا ولم تركب القطار التالي؟
- هذا يوم لا يمكن أن أتأخر فيه.
- لماذا؟
- هذا يوم انتهاء العمل بعقد مؤقت وتثبيتي بالوظيفة.
- ألف مبروك، هذا ببركة دعاء الوالدين يا بني، لا تنسي أن تبرهما.
- إن شاء الله وبارك الله فيك.

ثم أخرج من جيبه الاشتراك السنوي في هيئة السكك الحديدية، فحص الكمسري الاشتراك ثم ابتسم وغادر المكان. شعر بحنان غريب لسيجارة، أخرج واحدة من العلبة بلهفه، أشعلها ثم أرتكن بظهره على باب العربة، سبح في أحلامه، العمل الثابت، المستقبل، الاستقرار، الزواج بمحبوبته، تكوين بيتاً سعيداً ينعم فيه بكل الحب والهناء، مساعدة أبيه الذي نال الشيب منه، تعويض أمه وشقيقاته عن أيام العوز والفقر، سيشتري لأمه الشال الحرير الذي كانت تتمناه، سيشتري خروفاً كبيراً بقدوم العيد و...و...و...
في أثناء ذلك خرج شخص أخر ليشعل سيجارة - من النوع الفاخر– تاقت نفسه لينال واحدة من هذا النوع، لكنه نظر لسيجارته وأكتفي بنصيبه...
سحب نفساً من سيجارته ليعلن لها عن رضاه، ثم عاد لأحلامه وأفكاره مرة أخري، استرجع كلام أصحابه الذين سئموا البقاء والاستمرار في هذه الأحوال الصعبة وتفرقوا في كل بقاع الأرض. كم أفتقدهم جميعاً، خاصة أعزهم وأقربهم لقلبه الذي لم يراه منذ أكثر من عامين، تذكر آخر محادثة لهما على الهاتف:
- كيف الحال يا زعيم؟
- تمام الحمد لله، وحشتني قوي يا بني.
- أنت كمان. قولي بقى، قررت القدوم للعمل؟ مجال خبرتك مطلوب هنا جداً.
- لا يا عم، لا يمكن أن أبتعد عن أهلي؟
- يا بني سيبك من الكلام ده، خليك تعرف تتزوج وتعيش لك يومين.
- يا عم الرزق على الله.

سحب نفساً عميقاً أنشلت به كل خلايا عقله كمن تلقي صدمة كهربائية عنيفة، ثم هدأت تماماً، استكان عقله ثم عاد للعمل مرة أخري، تذكر سبب تأخره اليوم، أمتعض وجهه عندما تذكر أنه كان يتابع هذا الفيلم المثير ولم يستيقظ لصلاة الفجر وكاد أن لا يلحق بالقطار، وعد نفسه أنه لن يضيع صلاة الفجر مرة أخري وسيتوقف عن متابعة هذه الأفلام التي لا طائل من ورائها...يرن هاتفه المحمول رنة مقتضبة، ينظر بلهفة، يجد رقم محبوبته تلقي عليه تحيه الصباح، ابتسم عندما تذكر ملامحها الهادئة وتلك الأوقات الجميلة التي تمر معها دون أن يشعر وكأن عقارب الساعة تتوقف. يرفع هاتفه ليرد التحية بالمثل، ينظر من نافذة القطار ليلقي السيجارة، يستوقفه جمال الطبيعة وذلك اللون الأخضر الجميل الذي يغطي المزارع، يملأ صدره بالهواء النقي القادم من تلك الحقول، يتحسر لما فعله التدخين برئتيه، فوعد نفسه بالتوقف عن التدخين وردد:
- نعم سأسعى لهذا في أقرب وقت.
يتوجه ليفتح الباب ليدخل العربة، لكن فجأة يهتز القطار بشدة إثر ارتطام عنيف كاد صوته أن يصم الآذان‏، يسقط على الأرض، ينقلب القطار رأساً على عقب، الصرخات والأنات علت على صوت المعدن الذي تكوم على بعضه حاصداً الناس وجامعاً همومهم وأحلامهم بعضها على بعض...
عم الصمت التام الذي لم يقطعه سوى صوت هاتفه المحمول الذي رن للمرة الأخيرة...