الاثنين، مايو 29، 2006

ذات العيون الملونة

If the words not displayed correctly, right click on the page, and from the menu, choose "Encoding" then change it to "Unicode(UTF-8)"



دخل المكان بثقته المعتادة, تكاد تسمع صوت خطواته الراسخة على الأرض.
بهي الطلعة, يعلم أنه محط للأنظار.
لا يتلفت حوله كثيرا و لا يكترث لنظرات النساء.
فبجانب إيمانه بأن العين تزني و زناها النظر,
بدأ يوقن بأنه لن يجد المرأة التي يبحث عنها في هذه الحياة.

عيون مختلفة ألوانها تحاوره راجيتا, لكنه يأبى.
كلها تبدو كأبواب مغلقة, تحمل نفس اللون الرمادي الداكن.
لا تقوده لهذا السحر الكامن في روح حبيبة الأحلام.

توجه بهدوء صوب الطاولة حيث رفاقه.
لم تفارق وجهه تلك الابتسامة, التي تضفى على مظهره ثقة وغموض.

أخذ يمازحهم كعادته, يطلق النكات, فتعلو الضحكات.
يبدو كأسعد أهل الدنيا, لكن تسكن بداخله الأحزان.
إثر فقده المحور الذي تدور حوله أفكاره و نجاحاته.
ماتت أمه التي علمته أن يكون قويا.
فتجده صلبا, صامتا كجبل, لا يصدر الأنات.

لكن قلبه - رغم أحزانه و قنوطه - لم يتوقف عن النبض مناديا معشوقته,
مستغيثا كغريق تتقاذفه الأمواج.

مثل سائر الأيام, تسير الأمور بشكل رتيب.
لكن هذه المرة يشعر بطاقة عجيبة تملئ المكان.

أثناء لهوه, ناداه صمتها.
ينظر, يراها جالسة بشموخ بهره.
لا تكترث مثله لأحد, و تتفادى النظرات.

تجمد الوقت. بدأت أصوات أصحابه تبتعد, حتى عم الصمت.
ثم يسمع دقات قلبه تعلو, عندما تلاقت النظرات.

رمشت عيناه, فأومض المكان...

وجد‏ نفسه فوق ربوة مرتفعة تطل على بحيرة زرقاء.
تحيطها رمال تحمل بريق الماس, و كل عطور الدنيا ملئت الوديان.
نظر بعيدا, رآها جالسة بثوبها الأزرق الفضفاض, و الطبيعة من حولها تدللها.

يخجل من حسنها القمر و يحتجب, لتسكن عيناها كبد السماء.

شعرها كالليل. يحمله الهواء بعشق, و يرتفع طائرا.
ثم لا يقدر على حسنه, فيتركه ينسدل برفق على ظهرها.
معلننا مولد ليلة لم تُسطر بكُتُب‏ الأساطير و الحكايات.

تحتفل البحيرة بصورة وجهها, فتطلق القطرات,
لترسم القلوب في الآفاق, تتراقص حبات الرذاذ حول تلك القلوب.
كل شيء يحتفل بجمال عينيها الزرقاء.

يقف بعيدا. يلمحه الرذاذ, فيناديه: "اقترب".
يشعر بجناحي الشوق يحملانه إلي جوارها.
يراها ترسم بأناملها الرقيقة لفظ الجلالة على الرمال.
من دون أن يشعر, ردد: "الله".

ألتفتت إليه, ذهل بجمالها الذي أجبره على إغلاق عينيه.
تحسر لضياع تلك اللحظة, فأسرع يسابق أشارات عقله ليستعيد ذلك النور المفقود.

تحتضن الأشجار المكان بحنان, و تشبك فوقه الأغصان.
تنفذ من خلالها أشعة الشمس برفق,
ثم تداعب الأطراف الذهبية للعشب الأخضر الذي يكسو الأرض.
قبل أن تنعكس على شلالات الفضة التي تنحدر على صخور اللؤلؤ و المرجان.
فتصدر خريرا ناعما, يأسر الوجدان.

يبحث عنها بلهفة, يراها تتهادى بجوار نخيل الواحة الغناء.
مرتديه ثوبا أخضر مرصعا بخيوط الذهب و الكهرمان.
تترنم بلحن عذب...
فتنتحر الورود و الياسمين تحت قدميها لكي لا تطأ ما سواهم, و تتمايل الجذوع و الأغصان.

جلست إلى طاولة من فضة, تداعب قطع الشطرنج.
يقترب منها, ثم يجلس. يخفق قلبه بشدة, و يحرك أول قطعة.
تبتسم بدلال و خجل, كأنها تعرف حركته الأولى منذ قديم الأزل.
ثم تنظر له, و تطرح عيناها الخضراء أسئلة كثيرة.
ينبهر بجمالها, فيقولها مرة أخرى:‏ "الله".

أراد أن يخبرها كل كلام العشق و الغرام, لكنه استنفد ما هو مباح.

قد حان الوقت ليغلق عينيه...

نازعته نفسه ليراها مجددا, لكن أتاه صوت صاحبه ليخرجه من جنة هذه الأحلام:
- "الله"؟ ما بك يا صديقي, أتحلم و أنت مستيقظ؟
ذهل عندما وجد نفسه محاطا بنفس المكان.
نظر حيث تجلس ليتأكد من وجودها. نعم, ليس خيال.
فأشاح بوجهه مسرعا, لكي لا تخطفه عيناها إلى جزر الأحلام.
مال ناحية صاحبه و همس له:
- أترى تلك الفتاة...ذات العيون الملونة؟
- أتقصد تلك الفتاة ذات الحجاب الأخضر؟
- نعم.
- أراها, لكن...عيناها ليستا ملونتين.

وضع يده بجانب وجهه متفاديا رؤيتها, كمن يتفادى النظر إلى الشمس:
- سلامة عيناك؟
- خبرني...ما لون عيناها إذا يا صقر الفلاة؟

تحير, لقد رآهما بكل ألوان الطيف. قال مترددا:
- ز ز...زرقاء. لا, لا لا...إنها خضراء. لا, لا..إنها...
قاطعه صاحبه ساخرا:
- ما هذا...أسقط أبا الفوارس أسيرا؟

شعر بالخجل. كان دائما يسخر من كل أصحابه.
متباهي بأنه لم و لن تقدر عليه أي من بنات حواء.
تلعثم و تملص من الإجابة:
- عجبت لأمرك أخي. سألتك سؤالا محددا "أتعرف من هي؟"
- لا تغضب, ما يسعدك يسعدني. نعم, أعرفها و أعرف أهلها جيدا.
لذلك أخبرتك "عيناها ليستا ملونتين".

تعجب لكلام صاحبه, لكن حدثته نفسه مستنكره:
"ما أدراه بأمر الأعين؟. آآآه, لو رأى‏ ما رأينا"

ثم انهال على صاحبه بالأسئلة ملهوفا,
كتائه في صحراء وجد على مدى أفقه واحة ظليلة:
- أراها و أهلها على خلق و دين؟ فهل هم كذلك؟ و هل...و هل...
ضحك صاحبه:
- تمهل, رفقا بنفسك. نعم, أحسبهم كذلك و أكثر. و لا نزكي على الله أحداً.

تردد قليلا قبل أن يسأل بخوف و قلق:
- هل هي مرتبطة؟
مر الوقت كالدهر. لم يجب صاحبه, فلكزه برفق ليتكلم, فتأوه:
- آآآه, حسنا حسنا. أنت تعلم أنك حبيبي. لكن...؟.
ثم صمت ثانية وعلى وجهه ابتسامة ماكرة.
شعر بأمواج عارمة بداخله, بدأ يتوتر, و كاد أن يوبخه.
لكن صاحبه رفق بحاله:
- لا, ليست مرتبطة.

كاد يطير من شدة الفرح. أراد أن يعانقه...و...
قاطعه صاحبه قبل أن يغرق في بحور الأحلام ثانية:
- ماذا بعد يا فارسنا الهمام. أتحب أن أقدمك لها و لأهلها الآن؟
- لا. سأستخير ربي أولا. ثم نسأل عنهم أكثر, لنتيقن.
قال صاحبه:
- هذا ما عهدته فيك, لا تغلب مشاعرك على دينك.

ثم أخذ يداعبه بأداء مسرحي:
- خبرني. هل ستفرش لها الأرض ذهبا و مرجانا وحريرا؟.
و تكون الفارس الأسطوري الذي يخفق قلبه لها وحدها.
يحارب الوحوش من أجل أن يعيد لها جناحيها.
و كل هذا الكلام الذي أزعجتنا به طيلة حياتك.

- تعرفني جيدا. لو ملكت الدنيا لوهبتها لمن أحب.
- آلا تخشى أن ترفضك؟
ابتسم, ابتسامة الواثق بربه:
- هذا نصيب, قد خلق الله كل شيء بقدر.
غمز بعينه, ثم قال ضاحكا:
- دعني أسألك, هل رفض أحدا من قبل أن يدخل التاريخ؟.