السبت، مايو 24، 2008

المواطن المستقيل




استيقظ في الصباح الباكر، أشق طريقي في الحارة المتعرجة، بيوت متهالكة، نوافذ مغلقة تعلوها الأتربة، تبدو كعيون ناعسة لوجه كسول.
أصل إلى‏ عم علوان وعربته التي يبيع عليها الفول المدمس والفلافل الساخنة. يعطيني طبق الفول الساخن بالزيت الحار ورغيف خبز. ابدأ في تناول إفطاري بشكل آلي. تجوب عيناي أرجاء عربته القديمة، تعلوها الأوساخ رغم آثار محاولات التنظيف الواضحة، الذباب يحيط بالمكان، مشهد معتاد لا يجعلني أظهر أيا من علامات الاستياء.
أنهي إفطاري، اتجه إلى‏ الشارع الرئيسي، تبدأ المعاناة اليومية لكي أصل إلى‏ محل العمل. أنتظر في محطة الأتوبيس المزدحمة، يصل الأتوبيس، يتكالب عليه الناس. خرجت بنصيبي من المعركة متشبثا بالإطار الخارجي للباب، إحدى قدماي على درجة من السلم، الأخرى أضعها على الرفرف الخارجي لإحدى العجلات. أحاول كثيرا الحصول على مكان أحد النازلين، أفشل نتيجة التدافع الشديد.

أصل إلى المبني المتهالك الذي يمثل محل العمل، ارتقي درجات السلم الرخامية المتآكلة، تقودني إلى‏ مكتبي العتيق الذي يجثو في مكانه منذ ستة وخمسين عاما. وكما يحلو دائما لعم صابر أن يخبرني، أن هذا المكتب كان آخر شيء من رائحة مصر الملكية.
عم صابر رجل عجوز في نهاية العقد السابع من عمره، كان كل دوره في الحياة، أنه كان الموظف الذي سبقني في استخدام هذا المكتب لأكثر من أربعين عاما.
يزورنا من وقت لآخر، يمر بغرفتنا ليلقي التحية على الزملاء. كان يحلو له الجلوس إلى‏ جواري، ربما بسبب اشتياقه إلى‏ مكتبه الحبيب الذي أقبع خلفه منذ سبعة أعوام، منذ تخرجي من كلية الزراعة.
لم أعرفكم بنفسي، أنا شاب في الثامنة والعشرين من عمري، قوي البنية، أحمل ملامح ريفية مميزة، كثيرا ما يسألني الناس عن سر لمحة الحزن التي تكسو ملامحي، خصوصا عم صابر. يخرجني من تركيزي في العمل بالنقر على سطح المكتب - يبتسم متفاخرا بالخامات المصنوع منها -، يسألني عن سري. يحب الخوض في الأمور السياسية والحال السيئة التي آلت إليها البلاد. يعلم أني لا أحب مثل هذه الأحاديث، لكنه مال على اليوم، قال:
"فساد الثورة هو السبب في تردي الأوضاع إلى هذه الدرجة"
انتفضت واقفا كمن لدغه عقرب، انفجر في الضحك هو وزملائي. قال أحدهم بلكنة متهكمة:
"دعه في حاله يا عم صابر، أنت عارف المواطن المستقيل"
انطلقت خارجا من الغرفة تلاحقني ضحكاتهم وتعليقاتهم الساخرة. لم أغضب لسماعي مسمى "المواطن المستقيل"، أعلم أنهم يطلقون على هذا الاسم منذ سنوات، لعدم مشاركتي لهم في أي من حواراتهم السياسية، ونقدهم للأوضاع المعيشية المتردية.
يتهمونني بالتخلي عن حقي كمواطن بامتناعي عن ممارسة حقوقي الدستورية، لكني لا أرى طائل من وراء هذا، جميعهم يتحدثون ولا يفعلون شيئا. هذا يتحدث بكل حماس، الآخر يتبارى معه في نقاش حاد، يفصل بينهما ثالث بنكتة سياسية، يقهقه بعدها الجميع.
لا أخفى عنكم سرا، أحيانا أرفع رأسي عن أكوام الأوراق - التي تنمو أمامي مع الوقت -، أرى أفواههم قد ظهر لها عضلات بارزة، يقوم كل منهم باستعراضها أمام الآخرين.
يعترضون على التوريث، وكلهم يسعون بشتى السبل لإلحاق أبنائهم وأقاربهم بالوظائف التي يعلن عنها فى مصلحتنا الحكومية، يبررون "من نعرف، خيرا ممن لا نعرف".
يصفوني بالجبن وأي منهم يصبح مثل الأرنب المرتعد أمام مديره. كثيرا ما ترتسم على شفتاي ابتسامة، عندما أتخيل أحدهم مرتعدا مثل كتكوت مبتل في ليلة شديدة البرودة، عندما تجرهم هذه الحوارات إلى مشاكل أمنية. مساكين، لم يجربوا معنى الألم، لو جربوه لصانوا ألسنتهم داخل أفواههم.
رحل عم صابر، عدت إلى عملي بين غمزهم ولمزهم. يقضون وقتهم في الشكوى والنميمة، ولا يعملون. يشكون ضئاله الراتب، يدعون أن هذا هو سر عدم إخلاصهم وإتقانهم في العمل، يتخذ بعضهم هذا الأمر ذريعة لقبول الرشاوي أيضا.
يرسلون إلى مكتبي جماهير المواطنين، تاركين معظم العمل على عاتقي، لا يكفون عن قراءة الجرائد، خصوصا جرائد المعارضة التي تشفي غليلهم ببعض السب في الفساد، ولا تأتي بجديد.

أظل غارقا في عملي طيلة اليوم حتى ينتهي كسابقه، استعددت للرحيل، كلفت مكتبي بحراسة الملفات العتيقة، خرجت مودعا المبني المتهالك.
وجدت بائعا للبطيخ واقفا بالقرب من المبني، جال في خاطري أن اشتري بطيخة. أعلم أن هذه الفكرة ستلتهم مني ما يقرب من عشرة جنيهات، صدمني المبلغ حين تخيلته. في الأيام العادية يكون هذا المبلغ كافيا، لينتزع فكرة الشراء من عقلي نزعا، لكن تراقصت أمامي العلاوة الاجتماعية الجديدة، بلغت ثلاثين في المائة هذا العام، مما يعني أني قادر على شراء بطيخة كل أسبوع لمدة شهر بأكمله. حسمت أمري، قررت شرائها، وصيت البائع أن يكون أمينا. أعطاني بطيخة كبيرة الحجم، أخبرني أن أرجع إليه لاسترد نقودي إن لم تعجبني.
حملتها بكل سعادة، انطلقت في طريقي إلى محطة الأتوبيس، وقفت منتظرا كثيرا، مع الوقت تحولت البطيخة إلى حمل ثقيل. بدأت أتصبب عرقا، شعرت أنى أخطأت بعدم شرائها من مكان قريب من البيت. فشلت عدة محاولات لركوب أي من الأتوبيسات التي مرت بي، قررت أن أقف منتظرا حتى يرحل جميع الموظفين وينخفض الزحام قليلا. لكن هذا لم يحدث، بعد رحيل الموظفين، بدأ الطلاب في الظهور. قررت أن أركب مهما كانت العواقب، كادت أن تسقط البطيخة وتنكسر، لكن مر الموقف بسلام.
بعد عدة محطات خلا كرسيا إلى‏ جوار فتاة جميلة. جلست، شعرت بالخجل من رائحة العرق المتصبب من أنحاء جسدي. أخرجت منديلا كبيرا، جففت عرقى، التقطت أنفاسي. راودتني فكرة أن أتكلم معها. تراجعت، فما كنت لأحب أن يتحدث شخص غريب إلى أخت لي، كما أني خجولا جدا، وأيضا لا أريد فتح أبوابا شيطانية، يصعب غلقها فيما بعد، ماذا لو أحببتها؟ كيف سأتزوجها؟. راتبي بالكاد يكفيني حتى نهاية الشهر، لا استطيع أن اشتري حذاءا جديدا إلا كل عام أو عامين، بسبب تلك النزوات العارضة التي تنتابني - مثل شراء هذه البطيخة-. مجانين هؤلاء الناس، يصنعون المشاكل بأيديهم. لا يستطيعون تدبير نفقات المعيشة، لماذا يتزوجون إذا؟.

وصلت إلى بيتي القابع في أحد الأحياء الشعبية، صعدت درجات السلم المتهالكة إلى السطح. بيتي عبارة عن غرفة مصنوعة من ألواح خشبية، تحتل مساحة صغيرة من السطح، المساحة المتبقية مغطاة بالنباتات، لم أترك حبي للنباتات وزراعتها يموت بداخلي.
كنت أحب كثيرا منظر المحاصيل في الحقول، كان هذا قبل أن تغتصب عمليات التبوير والزحف العمراني الأراضي الزراعية. أردت أن أزرع أرضنا بعد التخرج، لكن الزراعة تحتاج إلى الكثير من المال، ما كانت أمى وأخوتي سيصبرون حتى نجني النتائج. بعنا الأرض التي ورثناها عن أبينا. أنفقت نصيبي على علاج أمى، لم يفلح الطب في تخفيف آلامها، توفاها الله.

دخلت غرفتي المتواضعة التي لا تحتوى علي الكثير من الأثاث. كنبة صغيرة أنام عليها، طاولة استخدمها في الأكل والقراءة والزراعة، وإناء يحتوي قلتين.
أخذت قطعة قماش، غمستها في الإناء، تشربت بالماء البارد، لففت بها البطيخة. وضعت البطيخة في جانب ظليل، فوق أرضية الغرفة لكي تبرد. بدلت ملابسي، ارتديت جلبابا فضفاضا، مددت جسدي على الكنبة الموضوعة بجوار النافذة التي يأتيني منها هواء عليل.

مازلت أذكر تلك الحادثة، كنت صبيا، حدث شجار بين ابن العمدة وأخي الأصغر. ركضت صوبهما، اشتبكت مع ابن العمدة، دفعته بقوه، سقط في الترعة. كاد أن يغرق، بينما كانوا ينقذونه، أمسك بى الغفير المكلف بحراسته، أخذ يضربني بقسوة شديدة. جاء أبى مسرعا، رجل ضخم الجثة، قوي البنيان، قاسي الملامح، قلما رأيته يبتسم. شعرت أني وجدت واحتي التي سأستظل بها من نار هذه القسوة. تواريت خلفه، تشبثت بجلبابه وأنا أرتعد. ما أن علم أبي بما حدث، جذب العصا من يد الغفير، ظل يضربني ضربا أشد، لم أدرى بمن استغيث.
جرني إلى البيت جرا، ألقى بي عند أقدام أمي، استغثت بها. أمرها أن توثق يدييَّ وقدميَّ، وأن تربط الحبل في إحدى أرجل السرير. شرعت في تنفيذ الأمر، أخذت أبكي، أرجوها ألا تفعل، - أخبرتني فيما بعد أنها كانت تخشي أن يستمر أبي فى ضربي-. أخذت أقاوم قيدي، حاولت كثيرا أن أقطع هذا الحبل، جرحت يديي، أدميت قدميَّ، خارت قواي ودارت بي الدنيا.
لم أعلم كم مر من الوقت، استيقظت فى حضن أمي. تبكي، تضع الماء على وجهي لأستفيق، لم أشعر لحظتها بأي شفقة نحوها - رغم حبي الشديد لها-. ما أن شعرت أني استرددت وعي، ضربتني بقبضتها في صدري، قائلة:
"لكي لا تعود لمثل هذا"
أصدر أبي قرارا بحرماني من الخروج إلى اللعب مع الأطفال في القرية، لمدة أسبوع كامل. في اليوم التالي، مللت البقاء في البيت، أخذت اقترب من الباب رويدا، رويدا. ركضت، أطلقت ساقاي للريح. ما أجمل نسيم الحرية، كانت أول مرة أعرف معناها الحقيقي، شعرتها بكل كياني. ما أجمل النظر إلى‏ الحقول، الشمس وقت الأصيل، ماء النيل ينساب في مجرى الترعة، طيور تسبح فوق صفحة المياه الصافية، أخرى تحط على الأغصان، تغذي صغارها في حب عجيب.
بعد قليل بدأت أشعر بالخوف من البقاء بمفردي، لا أعرف مكانا أوي إليه غير بيتنا، تقوقعت في مكاني. رآني أصدقائي، نادوني، أصلحوا بيني وبين ابن العمدة، أخذنا نلعب جميعا بكل سعادة، نسيت شعوري بالخوف.
بعد مدة قصيرة من الحرية، امسك بي أخي الأكبر، أعادني إلى‏ البيت. عنفني أبي لعصياني أمره. توعدني بأنه سيقيدني بشدة هذه المرة، سيدهن جسدي بالعسل، ثم يلقي بي في الحقل لتأكلني الفئران حيا. أخذت أصرخ، أرجوه، أقسمت أني لن أعصي له أمرا بعد اليوم، ظل عاقد الحاجبين، بادي الغضب. لم أحتمل هذا المصير، انزويت في أحد الأركان، ارتجف بشدة، أكرر وعودي بأني لن أفعل هذا مرة أخرى.

استيقظ فجأة من نومي وأنا أصرخ، أتصبب عرقا، مازال جسدي ينتفض من فرط الانفعال. مازلت في غرفتي، قد جنا الليل، أسدل أستاره، شعرتها ثقيلة على نفسي. كابوس لم يتوقف عن مهاجمتي منذ ذلك اليوم، كم دعوت الله أن يرحمني منه.
أنهض من مقامي، أتوجه صوب الحوض الصدئ الموجود في الفناء الخارجي، أغسل وجهي. استند إلى‏ السور. لا يدهشني مشهد متكرر لشاب يغازل ابنة جيرانه واستجابتها له. أتركهما في أوهامهما يعمهان.
يشدني مشهد‏ البيوت المتهالكة، الأضواء الخافتة تنبعث من خلف الستائر، أصوات أجهزة التلفاز تتصاعد، تبدو لي الحارة المتعرجة كأنها حية أسطورية، تصدر فحيحها، قبل أن تعتصر سكانها. استنشق الهواء بصعوبة، أشعر كأن نسائمه خناجر حادة تمزق رئتي. تعاودني الذكريات الأليمة، أحاول أن أنفضها عن ذهني.

مرت أيام عصيبة بعد تلك الحادثة، كنت طريح الفراش. بعد أن عدت إلى حالتي الطبيعية، أصبحت لا أفارق بيتنا، إلا للذهاب إلى المدرسة، أو العمل في الحقل. حرمت على نفسي اللعب، كي لا أخطئ مرة أخرى. لم أجد أمامي إلا النباتات التي صادقتها وصادقتني، و"نعمة" ابنة عمي الصغيرة، كانت أحيانا تجلب لي بعضا من الحلوى التي توزع على الأطفال عند وجود عرس.
أرد لها الجميل، أشرح لها أنواع النباتات، الفرق بين النافع والضار منها. تلتهم قطع الحلوى بنهم وسعادة، تضحك كثيرا، تتعجب أكثر من حبي الشديد لهذه النباتات، تمازحني:
"لا أهتم بنباتاتك، مصيرها أن نأكلها أو تأكلها البهائم"
كبرت نعمة، تزوجها ابن العمدة، وددت لو قلت لا، لكني لم اعترض.

مرت الأيام، ذهبت إلى‏ القاهرة لالتحق بالجامعة، كان الطلاب يناقشون في حماس الكثير من الأمور والقضايا، دينية وسياسية، ينصب جم غضبهم على الفساد الذي استشرى في البلاد بطولها وعرضها، ينظمون مظاهرات، وإضرابات، ووقفات اعتصاميه، تجنبتهم وابتعدت عنهم. سمعت أن رجال الأمن يتتبعون المصلين الذين يؤمون مسجد الجامعة، توقفت عن الصلاة فيه. شعرت أن زملائي عيون لهم. مع مرور الوقت، بدأت أتأكد أنهم في كل مكان، يراقبون ويتصنتون، يتتبعوني أينما كنت، يسجلون حتى أنفاسي، أصبحت أصلى مستخدما جفوني، خشية أن يسجلوا فعلى. لم أفعل شيئا ليظلوا في إثري هكذا، لماذا لا يرحلون ويتركوني في حالي؟.

ينتابني شعور غريب، أجوب أرجاء الغرفة بناظري، وقعت عيناي على البطيخة، أحملها برفق إلى الطاولة، أبحث عن السكين، أتذكر أني تخلصت منه بالأمس، خشية أتهامي بإحراز سلاح.
شعور بالخوف يملأ صدري، تسارعت معه نبضات قلبي. تبدو البطيخة كحصن منيع، ضربتها في طرف الطاولة، تشققت، ما أجمل لحظات النصر. أمسك فُتَاتَها المسكين بين أصابعي، أكله بنهم.

أسمع وقع أقدام تقترب. أرفع رأسي، "نعمة"، وجهها المبتسم، ضحكاتها البريئة مازالت ترن في أذني. ما أجملها ليلة عرسها، كأنها البدر ليلة تمامه. تمسك في يديها ابنينا مصطفي ومريم. أمد إليهم يدي المرتعشة بقطعة من البطيخة.
يذهبون بعيدا، يختفون، أناديهم، لا يجيبون. تغرغرت عيناي بالدموع، "ملعونة الدنيا وملعون جنونها".

يملأ الحزن نفسي، تتسارع دقات قلبي كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، ما أصعب الألم. تخرج ضحكة هستيرية دونما إرادة مني، يتصبب العرق من أنحاء جسدي، تنهمر العبرات حارة على وجهي.
أشعر بخوف شديد، أضم ساقي إلي صدري، أنكمش على نفسي. أشعر بالضربات المنهالة على جسدي، أحاول عبثا الدفاع عن نفسي.
أقسم لهم "لن أعود لمثل هذا، لن أعود".


تمت،،،


بقلم: عدنان القماش - مصر.
5 يونيو 2008
أبوظبي، دولة الإمارات العربية المتحدة.



ليست هناك تعليقات: